سيتم في مقال اليوم استعراض الأدلة التي تثبت أن ''أوبك'' ليست منظمة احتكارية ''كارتل''، إنما هي مجرد ناد للمنتجين. وفيما يلي أهم الأدلة:
1- تشير الأدبيات الاقتصادية إلى وجود عدة خصائص للكارتل, وهي وجود حصص إنتاجية، ومراقبة الدول المنتجة لمنع تجاوز الحصص الإنتاجية، ومعاقبة الدول التي تتجاوز حصصها الإنتاجية، واستهداف سعر أدنى، واتخاذ خطوات فاعلة للدفاع عن السعر الأدنى، والتحكم في حصة ضخمة من السوق، وتقسيم الأصوات بين أعضاء المجموعة بناء على حصصهم الإنتاجية. وإذا طبقنا هذه الشروط على ''أوبك'' نجد أنه لا يمكن لأي منها أن ينطبق على ''أوبك''، وتم في الحلقات الماضية طرح الأدلة على ذلك.
2- بناء على معايير المحاكم الأمريكية، لا يمكن وصف ''أوبك'' بـ ''كارتل'' لعدم توافر شرطين أساسيين هما التحكم في السوق والنية للتحكم في السوق وإقصاء المنافسين. وتشير الملفات القضائية الأمريكية إلى أن ''التحكم في السوق'' مربوط بـ ''الحصة السوقية''، وهذه الحصة السوقية يجب أن تكون على الأقل 80 في المائة. لكن إنتاج ''أوبك'' يبلغ 40 في المائة فقط، وأعلى ما وصلت إليه هذه النسبة كانت 54 في المائة وكان ذلك قبل أن تتبنى ''أوبك'' نظام الحصص الإنتاجية. وحتى لو تم التركيز على الصادرات بدلا من الإنتاج فإن صادرات دول ''أوبك'' لا تبلغ الحد الذي تتطلبه المحاكم الأمريكية لإدانة ''أوبك'' بالاحتكار، خاصة أن استخدام أرقام الصادرات في المحكمة يتطلب استخدام الواردات، الأمر الذي سيوضح وجود قوة للمشترين أيضا. أما بالنسبة لنية ''أوبك'' التحكم في السوق وإقصاء المنافسين فإن ''أوبك'' لم تتخذ الخطوات الأساسية المذكورة في الفقرة السابقة للتحكم في السوق عن طريق تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار. وإذا استطاعت ''أوبك'' رفع الأسعار، كيف يمكنها عزل المنافسين من السوق في ظل أسعار نفط مرتفعة؟ دخول منافسين جدد في ظل الأسعار المرتفعة ليس من بدهيات علم الاقتصاد فقط، بل هو من حقائق صناعة النفط العالمية. كما أن الأدلة تشير إلى أن بعض دول ''أوبك'' زادت الإنتاج في فترات حرجة لتحقيق الاستقرار في أسواق النفط العالمية كما حصل أثناء الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية وغزو العراق للكويت والانقلاب في فنزويلا والمشكلات السياسية في نيجيريا والاجتياح الأمريكي للعراق.
3- كما ورد في مقال سابق فإن التحليلات الإحصائية لا تؤيد أن ''أوبك'' منظمة احتكارية ''كارتل''. وأشار بعض الباحثين الذي قاموا بهذه الاختبارات والتحليلات إلى أن ''أوبك'' هي ''كارتل جزئي'' أو '' ضعيف'' أو ''غير فاعل'' أو ''غير متزن''. لكن هذه التعبيرات التي استخدمها الباحثون لا ترقى إلى مستوى البحث الأكاديمي الذي قاموا به ولا تعدو أكثر من تعبيرات صحافية عامة، خاصة أنه لا توجد أي نظرية في علم الاقتصاد تدعم هذه التعبيرات. إضافة إلى ذلك فإن نتائج هذه الاختبارات والتحليلات الإحصائية لا يعتد بها لأسباب عديدة أهمها أنها تعتمد على الارتباط بين متغيرين. فإذا استخدمنا النماذج الرياضية نفسها وطبقناها على دول خارج ''أوبك'' لوجدنا أن سلوك دول خارج ''أوبك'' يتناسق إحصائيا مع نظرية ''الكارتل'' أكثر من سلوك ''أوبك''. وتشير النماذج الرياضية نفسها إلى أن قوة ''أوبك'' كانت في الثمانينيات، وهذا يتعارض مع المنطق, لأن أضعف فترة في تاريخ ''أوبك'' كانت الثمانينيات عندما انهارت أسعار النفط. وإذا طبقنا هذه النماذج على أكثر الأسواق منافسة في العالم مثل القمح، لوجدنا أن سلوك منتجي القمح يتناسق مع نظرية الكارتل أكثر من سلوك دول ''أوبك''، وهذا لا يقبله عقل أو منطق. هذا يعني أن هناك خللا في هذه النماذج الرياضية والتحليلات الإحصائية، وهذا يعني أيضا أنها لا تختبر القوة الاحتكارية، إنما تختبر مدى تناسق إنتاج هذه الدول مع بعضها. ومن المعروف أن سوق المنافسة يرتفع فيها إنتاج جميع المنتجين مع ارتفاع الأسعار وينخفض مع انخفاض الأسعار، لكن هذه الاختبارات الإحصائية تستنتج أن هذا التصرف تصرف ''احتكاري''!
4- تشير نظرية الاحتكار إلى أن المحتكر ينتج وفقا لنقطة معينة تتوافق مع نقطة ما على الجزء المرن من الطلب على نفط المحتكر. لكن كل الدراسات التي قامت بقياس مرونة الطلب على نفط ''أوبك'' أشارت إلى أن الطلب على نفط ''أوبك'' غير مرن، الأمر الذي ينفي صفة ''كارتل'' أو ''الاحتكار'' عن ''أوبك''.
5- أما موضوع الاجتماعات والتنسيق بين دول ''أوبك'' حول الإنتاج والأسعار وغير ذلك فإن هذا الأمور معروفة ومنتشرة وهناك منظمات لكل مادة أولية تقريبا، ولم يتم وصف هذه المنظمات بأنها كارتل رغم أنها تجتمع دوريا وتتخذ قرارات تتعلق بالإنتاج والأسعار. لم نسمع بكارتل القهوة أو القصدير.. أو حتى الموز! وإذا كانت الاجتماعات والتنسيق دليلا, ماذا نقول عن وكالة الطاقة الدولية؟
6- يرى بعض الباحثين أن ''الريع'' الضخم الذي جنته دول ''أوبك'' يعكس قوتها الاحتكارية. ويقوم هؤلاء بحساب الريع عن طريق حساب الفرق بين ''التكلفة الحدية'' لإنتاج النفط التي لا تتجاوز دولارين أو ثلاثة، وسعر النفط الذي تجاوز 140 دولارا في وقت ما. لكن هؤلاء الباحثين يتجاهلون أبسط قواعد اقتصاديات الموارد الطبيعية: لا يمكن استخدام التكلفة الحدية مع أي مصدر ناضب, لأن التكلفة الحدية لا تشمل تكلفة النضوب, فسعر السلع الصناعية أو الزراعية يساوي تكلفتها الحدية، لكن سعر الموارد الطبيعية يساوي ''تكلفة الاستعمال''، التي تعكس الخسارة من نضوب النفط. والفرق بين ''التكلفة الحدية'' و''تكلفة الاستعمال'' كبير جدا لدرجة أن بعض الباحثين يرى أن النفط يباع بخسارة منذ اكتشافه حتى الآن. لهذا لا يمكن قبول دليل وجود ريع احتكاري كدليل على احتكار ''أوبك'' إلا إذا قام الباحثون بحساب ''تكلفة الاستعمال''.
7- قام عدد من الباحثين بتقديم نماذج بديلة لفكرة الكارتل, التي تشرح انتقال الثروة من الدول المستهلكة إلى الدول المنتجة من دون كون ''أوبك'' منظمة احتكارية، وثبت نظريا وعمليا وإحصائيا صحة هذه النماذج. مثلا يرى بعض الباحثين أن انتقال الثروة في السبعينيات يعود إلى أمرين: القوة السوقية للسعودية وقوانين تحديد أسعار المنتجات النفطية في الولايات المتحدة، التي زادت من القوة السوقية للسعودية. فهم يرون أن قوانين تحديد الأسعار حفضت الإنتاج الأمريكي، وزادت الطلب العالمي للنفط، وزادت الطلب على النفط السعودي. ارتفاع الأسعار وزيادة إنتاج السعودية مكنا السعودية من جمع ثورة هائلة من مستهلكي النفط.
8- تشير البيانات التاريخية إلى أن دول ''أوبك'' كانت أكثر تجاوبا مع الأحداث السياسية والاقتصادية والطبيعية العالمية من تجاوبها مع مصلحتها الشخصية وأهدافها التي تستلزم تعظيم ثروتها. كما أن ''أوبك'' أثبتت أنها تتعامل بشكل عملي مع تناقض مصالح أعصائها وخلافاتهم، كما أن هناك أدلة كثيرة تشير إلى أن تسعير ''أوبك'' للنفط لم يعكس متطلباتها هي، بل عكس ردة فعل دول ''أوبك'' على أسعار النفط في الأسواق الفورية والمستقبلية.
خلاصة الأمر أن ''أوبك'' ليست منظمة احتكارية ''كارتل'', إنما مجرد ناد للمنتجين. وسيتم في المقال القادم، وهو الأخير في هذه السلسلة، شرح سلوك ''أوبك'' بطريقة تتلاءم مع النظرية الاقتصادية والبيانات التاريخية.