إذا كانت ''أوبك'' قد أُنشئت لإدارة أسواق النفط العالمية على نمط إدارة ''هيئة سكة حديد تكساس'' لإنتاج النفط في الولاية، فإنه من الواضح أن ''أوبك'' فشلت فشلا ذريعا في مهتمها. ويجمع الخبراء على أنه على الرغم من أن فكرة إنشاء ''أوبك'' وُلدت في تكساس بعد مراقبة وزير النفط الفنزويلي خوان بيريز ألفونسو سلوك هيئة سكة حديد تكساس في الأربعينيات من القرن الماضي، إلا أن السبب الرئيس في فشل ''أوبك'' في محاكاة النجاح الذي حققته هيئة سكة الحديد في إدارة أسواق النفط هو أن ''أوبك'' لا تملك الإطار القانوني لإجبار المنتجين على تخفيض الإنتاج، ولا تملك قوات مسلحة لإجبار المنتجين على خفض الإنتاج والالتزام بالحصص الإنتاجية كما فعلت هيئة سكة حديد تكساس في بداية الثلاثينيات، ولا تسيطر على نقل النفط.
وقد يستغرب القارئ العربي عن علاقة سكة الحديد بالنفط، لكن هذا الاستغراب سيزول إذا عرفنا التطور التاريخي للعلاقة بين سكة الحديد والنفط. فقد تم إنشاء هيئة سكة حديد تكساس في أواخر القرن التاسع عشر بهدف منع شركات السكك الحديدية من التحكم في حركة الأشخاص والبضائع واستغلالها المسافرين والمزارعين ورجال الأعمال. وكانت هناك علاقة قوية بين صناعة النفط وسكة الحديد لأن النفط بعد اكتشافه بكميات تجارية تم نقله لمسافات بعيدة في عربات القطارات.
وبما أن مهمة الهيئة هي مراقبة عمليات النقل، التي كان يتم أغلبها عبر السكك الحديدية، فإنه كان من المنطقي أن يتم وضع أنابيب النفط والغاز تحت سيطرتها لأن ذلك اعتبر ضمن ''عمليات النقل''. وتم وضع أنابيب النفط تحت سيطرة الهيئة عام 1917 بهدف منع الاحتكار وإجبار شركات الأنابيب على عدم التمييز بين المنتجين بجعلها ''ناقلا عاما''. وبعد عامين ازدادت هيئة الحديد قوة عندما أعطيت صلاحية تطبيق المسافات بين آبار النفط والغاز. وجاء ذلك بعد تبني قانون يحدد عدد آبار ضمن منطقة معينة، وبالتالي يحدد المسافة بينها. تطبيق هذا القانون عنى بالضرورة ترشيد الإنتاج وتخفيضه من جهة، والحفاظ على الموارد الطبيعية من جهة أخرى. وهذا أسهم بدوره في رفع أسعار النفط ثم استقرارها.
ومع مرور الزمن، ازداد دور سكة حديد تكساس في قطاع الطاقة لدرجة أنها تسيطر حاليا على جميع قطاع الطاقة بشتى أقسامه في ولاية تكساس، في الوقت الذي لا علاقة لها بسكة الحديد أو بطرق النقل الأخرى. هذا التحول هو الذي أدى في الأشهر الأخيرة إلى طرح مشروع يحول اسمها من هيئة سكة حديد تكساس إلى هيئة نفط وغاز تكساس.
وأهم ما يعنينا في هذا المقال هو أن الهيئة أعطيت صلاحية تحديد الإنتاج لكل بئر في تكساس، وبما أن تكساس كانت من أكبر المنتجين في العالم في ذلك الوقت، فإن أثر تحديد الإنتاج لم يكن محليا، إنما كان عالميا. فالهيئة استطاعت تخفيض عدد الآبار عن طريق تقنين المسافة بين الآبار، ثم استطاعت بقوة القانون إجبار المنتجين على تخفيض إنتاجهم بنسب معينة بناء على إنتاجهم السابق. وعندما لم يلتزم المنتجون بقرارات الإنتاج التي أصدرتها الهيئة، تم اللجوء إلى القوات المسلحة التي أجبرت المنتجين على الانصياع لأوامر الهيئة. لذلك فإن من المفارقات العجيبة أن الهيئة أسست لمنع الاحتكار في قطاع النقل، لكنها عززت الاحتكار في مجال النفط والغاز!
ولم يتلاش دور سكة حديد تكساس في أسواق العالمية إلا مع تناقص الإنتاج في حقل شرق تكساس، وتنامي الإنتاج خارج الولايات المتحدة، خاصة في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، الأمر الذي فسح المجال لـ ''أوبك''. إلا أن دور الهيئة ما زال مهما لأنها تشرف على كل أطراف صناعة الطاقة في ولاية تكساس، مع تركيز كبير على صناعة الغاز ونقله وتوزيعه.
وكان من أهم إنجازات الهيئة تحريم حرق الغاز الطبيعي المصاحب ابتداء من نهاية أربعينيات القرن الماضي. هذا المنع أجبر منتجي النفط على إعادة الغاز المصاحب إلى المكامن، الأمر الذي أسهم في استعادة الضغط في المكامن، وزيادة إنتاجها من النفط.
أوجه الشبه
كما ذكر سابقا فإن فكرة إنشاء ''أوبك'' جاءت بعد مراقبة وزير النفط الفنزويلي عمليات هيئة سكة حديد تكساس، لذلك لا غرابة أن نجد شبها بينهما. ولعل أهم أوجه الشبه هو هدف ترشيد إنتاج النفط لمنع أسعاره من الانخفاض والمحافظة على الموارد الطبيعية، وهما من أهم أهداف ''أوبك''. وقامت هيئة سكة الحديد بإجبار المنتجين على تخفيض الإنتاج لرفع الأسعار، وهو أمر قامت به بعض دول ''أوبك'' مرات عديدة. وفي الوقت الذي قررت فيه هيئة سكة حديد تكساس تخفيض الإنتاج كنسبة من إجمالي الإنتاج، تم ذلك عن طريق تخفيض إنتاج كل منتج بالنسبة نفسها، وهذا يشبه طريقة تخفيض ''أوبك'' الإنتاج. ومن أوجه الشبه أيضا أن كلتا المنظمتين تقومان بجمع البيانات وتوزيعها وإجراء البحوث في الأمور التي تخص عملياتها. ولعل أطرف أوجه الشبه أنه في فترة من الفترات سيطرت هيئة سكة حديد تكساس على 40 في المائة من أسواق النفط العالمية، وهذه هي حصة ''أوبك'' في أسواق النفط العالمية في السنوات الأخيرة.
أوجه الاختلاف
كما ذكر أعلاه، فإن أهم أوجه الاختلاف أن هيئة سكة الحديد تمتعت بقوة قانونية تجعلها تجبر المنتجين على الانصياع لأوامرها، كما أنها استعانت بقوة عسكرية لفرض سيطرتها، وكلا الأمرين لا يوجدان في ''أوبك''. كما أن هيئة سكة الحديد سيطرت على عمليات نقل النفط والغاز، الأمر الذي مكنها من مراقبة الإنتاج والتجارة في النفط والغاز بشكل مباشر، ومكنها من معرفة ومعاقبة المخالفين. لكن ''أوبك'' لا تسيطر على قطاع النقل، وبالتالي فإنه لا يمكنها مراقبة إنتاج أعضائها. حتى لو عرفت بتجاوز أعضائها حصصهم الإنتاجية فإنها لا تستطيع معاقبتهم. ولعل أهم دليل على ضعف ''أوبك'' أن بيانات إنتاج أعضائها التي تذكرها في تقاريرها الشهرية تأتي من مصادر خارجية، غالبا من شركات غربية تقوم بمراقبة حاملات النفط وحركة السوق. هذا يعني أن ''أوبك'' ضعيفة لدرجة أنها لا تعرف إنتاجها إلا من مصادر خارجية!
لقد كانت سيطرة هيئة سكة الحديد في أراضيها مطلقة, حيث حددت إنتاج كل بئر على حدة، بينما لا تتجاوز قدرة ''أوبك'' تقديم مقترح بحجم إنتاج دول بأكملها.
ومن الفروق الأساسية سيطرة الهيئة على إنتاج النفط والغاز، بينما تقتصر قرارات ''أوبك'' على النفط فقط. ونتج عن هذا الفرق منع الهيئة حرق الغاز وإعادة حقنه في المكامن، الأمر الذي زاد من الإنتاج وكفاءة الإنتاج. في الوقت نفسه نجد أن الغاز لا يستفاد منه في عدد من دول ''أوبك''، ويتم حرقه مجرد خروجه من البئر.
ومن أوجه الاختلاف أيضا أن لدى هيئة سكة الحديد قوة تشريعية تمكنها من سن قوانين وتغيير الأسعار وغير ذلك من أمور تتعلق بالمستهلك النهائي للنفط والغاز، لكن ''أوبك'' ليس لديها هذه القدرة على الإطلاق. بعبارة أخرى، سيطرة الهيئة تمتد من المنبع إلى المصب، لكن سيطرة ''أوبك'' تركز على المنبع فقط.
خلاصة الأمر أن ''أوبك'' فشلت في محاكاة هيئة سكة حديد تكساس، الهيئة التي كانت وراء فكرة ''أوبك''. وما كان لـ ''أوبك'' أن تكون كما هي عليه اليوم لولا انخفاض إنتاج حقل شرق تكساس، الذي أدى إلى تلاشي دور هيئة سكة الحديد في مجال النفط.