هل يلعب انخفاض الدولار الأمريكي دوراً في قرارات الإنتاج في بعض دول ''أوبك''؟ وهل يؤثر ارتفاع معدلات التضخم في الدول الصناعية في قرارات إنتاج النفط في دول ''أوبك''؟ وهل تلعب الاستثمارات الخارجية لدول ''أوبك'' دورا في تحديد مستوى إنتاج النفط؟ هذا هو محور مقال اليوم.
نظرا لعدم قدرة النماذج السابقة على شرح سلوك دول ''أوبك'' وتقلبات أسواق النفط العالمية خلال الـ 40 سنة الماضية بشكل مقنع، ظهرت أفكار جديدة تحاول الإجابة عن السؤال التالي: بما أن التحليلات الإحصائية تنفي أن ''أوبك'' منظمة احتكارية، وتؤكد أن أسواق النفط العالمية لا تتمتع بالمنافسة، وأن السعودية تتمتع بقوة سوقية تجعلها المنتج المسيطر في أسواق النفط العالمية، لماذا لا تتعاون دول ''أوبك'' مع السعودية عندما تخفض أو تزيد الإنتاج في أغلب الأحيان، ولماذا تتعاون معها أحيانا أخرى؟
مفهوم القوة الشرائية للنفط
يرى مؤلف هذا النموذج أن أغلب دول ''أوبك'' تتصرف منفردة دون تنسيق بينها بسبب الاختلاف بينها في القوة الشرائية لصادرات النفط، الأمر الذي يفسر عدم التزام بعض دول ''أوبك'' بحصصها الإنتاجية، كما يفسر التفاوت بينها في الالتزام، وتغير مستويات الالتزام من فترة لأخرى. ويقصد بالقوة الشرائية لبرميل النفط ''كمية السلع والخدمات التي يمكن استيرادها مقابل كل برميل نفط يتم تصديره''، لهذا فإن القوة الشرائية لبرميل النفط هي قيمته الحقيقية. هذه القيمة الحقيقية تختلف عن القيمة الاسمية بسبب تغير سعر صرف الدولار مقابل العملات الأخرى وتغير أسعار صادرات الدول التي تصدر سلعها وخدماتها للدول النفطية. فعلى سبيل المثال، إذا كان سعر برميل النفط 100 دولار وسعر طن القمح المستورد 100 دولار، فإن القيمة الحقيقية لبرميل النفط هي طن قمح (على فرض أن الدولة المنتجة للنفط تستورد قمحا فقط). فإذا ارتفع سعر طن القمح المستورد إلى 200 دولار وبقي سعر برميل النفط على حاله، فإن القوة الشرائية لبرميل النفط تنخفض بمقدار 50 في المائة لأننا الآن نحتاج إلى تصدير برميلي نفط للحصول على كمية القمح نفسها التي حصلنا عليها في السابق. وإذا انخفض سعر طن القمح إلى 50 دولاراً فإن القوة الشرائية للنفط تتضاعف, حيث إن برميل النفط الآن يمكّن من شراء طني قمح بدلا من طن واحد.
إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة لأن دول ''أوبك'' تشتري سلعا وخدمات كثيرة من دول مختلفة بعملات مختلفة في الوقت الذي تتغير فيه أسعار الصرف ومعدلات التضخم في هذه الدول باستمرار. هذا يعني أنه حتى لو كان سعر النفط ''الاسمي'' واحدا لجميع دول ''أوبك''، فإن السعر ''الحقيقي'' مقدرا بالقوة الشرائية للبرميل يختلف اختلافا كبيرا من دولة إلى أخرى بسبب اختلاف الشركاء التجاريين لها واختلاف نسب تركيز الصادرات.
القوة الشرائية للنفط وقرارات الإنتاج
يشرح هذا النموذج السلوك التنافسي لبعض دول ''أوبك'' التي لا تلتزم بحصصها الإنتاجية, حيث إن هذه الدول تهدف إلى تعظيم القوة الشرائية (القيمة الحقيقية) لصادرات النفط. ما فائدة تخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط ''الاسمية'' إذا كان هذا الارتفاع سينتج عنه انخفاض الدولار الأمريكي وارتفاع أسعار صادرات الدول الصناعية؟ ما فائدة وصول أسعار النفط إلى 500 دولار للبرميل في العام المقبل إذا أصبح اليورو يساوي خمسة دولارات؟ وما فائدة تضاعف أسعار النفط إذا تضاعفت أسعار السلع والخدمات التي تستوردها دول ''أوبك''؟ إذا كان تخفيض إنتاج النفط والالتزام بالحصص الإنتاجية يؤديان إلى رفع أسعار النفط، وارتفاع أسعار النفط يؤدي إلى انخفاض الدولار وارتفاع تكاليف الواردات، فإنه ليس هناك حافز لبعض دول ''أوبك'' على الالتزام بالحصص الإنتاجية. لهذا فإن ''أوبك'' ستصبح أكثر فاعلية وقوة إذا تمت مساواة القوة الشرائية لكل دول ''أوبك''، لأن ذلك سيخفف كثيرا من عمليات انتهاك الحصص الإنتاجية.
ورغم أن أثر القوة الشرائية يظهر في كل دول ''أوبك''، إلا أن بعض الدول أكثر تأثرا من غيرها بسبب اختلاف مصادر الواردات ونسبة تركيزها. ويصبح وضع بعض الدول المنتجة للنفط أكثر سوءاً إذا كانت تصدر النفط الخام وتستورد المشتقات النفطية. في هذه الحالة فإن أي رفع لأسعار النفط يؤدي إلى رفع أسعار المشتقات النفطية المستوردة، الذي يؤدي بدوره إلى تخفيض القيمة الحقيقية لصادرات النفط. تاريخيا، قامت سبع دول أعضاء في ''أوبك'' باستيراد المشتقات النفطية بشكل كبير بحيث إنها أثرت في القوة الشرائية لصادرات النفط, وهي: الجزائر, الإكوادور, الجابون, إندونيسيا, نيجيريا, الإمارات, وفنزويلا. وتشير التحليلات الإحصائية إلى وجود علاقة قوية بين القوة الشرائية لصادرات النفط وعدم التزام هذه الدول بحصصها الإنتاجية. لهذا فإن فاعلية ''أوبك'' وقوتها ستزداد إذا شجعت الدول الأعضاء على زيادة الطاقة التكريرية داخلها لتخفيف استيراد المشتقات النفطية.
دور الاستثمارت الأجنبية في تحديد الإنتاج
بما أن النموذج السابق لا ينطبق على كل دول ''أوبك''، فإن البحث ما زال جاريا عن أسباب قيام بعض دول ''أوبك'' بتجاهل حصصها الإنتاجية تاريخيا، خاصة الكويت. ووفقا لإحدى الدراسات فإن قيام بعض دول ''أوبك'' باستثمار أموال ضخمة في الخارج أثر في قرارات إنتاج النفط ومدى التزام هذه الدول بحصصها الإنتاجية. ووفقا لهذا الرأي فإن كمية الاستثمارات في الدول الأجنبية غير مهمة، لكن المهم هو نوعية الاستثمارات. ففي البداية قامت الكويت بالاستثمار في إنتاج النفط في بحر الشمال, هذا يعني أن مصلحة الكويت ومصلحة هذه الاستثمارات تتطلب أسعار نفط عالية، الأمر الذي شجع الكويت على إبقاء إنتاجها منخفضاً. ثم قامت الكويت في الثمانينيات بتوسيع استثماراتها لتشمل آلاف محطات توزيع المحروقات في عدة دول أوروبية وبعض المصافي، خاصة في سنغافورة. وبما أن أسعار المحروقات كانت محددة من قبل الحكومات في أغلب الدول الأوروبية بطريقة أو بأخرى، فإن مصلحة الكويت اقتضت انخفاض أسعار النفط، أو على الأقل عدم ارتفاعها، لأنها تحقق أرباحا طائلة من محطاتها ومصافيها في الخارج. وتشير البيانات إلى أن عوائد الكويت من استثمارتها في الخارج كانت أعلى من عوائد الكويت على صادراتها من الخام طوال فترة الثمانينيات. لهذا فإن ''أوبك'' ستكون أكثر فاعلية وقوة إذا قامت الدول الأعضاء بالتخفيف من الاستثمار في محطات توزيع المحروقات في الدول المستهلكة.
خلاصة الأمر أن التركيز على شرح سلوك ''أوبك'' ككل قد لا يكون الطريقة المثلى لفهم سلوكها، لهذا فإن الشروحات المقدمة أعلاه قد تشرح سلوك بعض دول ''أوبك''، خاصة أن هناك اتفاقا بين الخبراء على أن القوة الشرائية للنفط تلقى اهتماما كبيرا من قبل صانعي القرار في ''أوبك'' وباحثيها.
شكرااااا