ماذا بعد هجوم الحكومات على أسواق الصرف الأجنبي؟ .. هل تندلع الحرب فعلا؟

01/01/2011 2
د.محمد إبراهيم السقا

يعيش العالم حاليا في ظروف متشابهة لتلك التي سادت خلال الثلاثينيات من القرن الماضي عندما اندلعت أعنف حرب للعملات شهدها العالم، فقد حاولت دول العالم الخروج من الأزمة من خلال تجربة أنواع العلاج كافة، والتي فشلت في معظم الحالات في مساعدة الدول على الخروج من الكساد. لم يجد الكثير من دول العالم الغربي من بد أمامها سوى اللجوء إلى محاولة اكتساب ميزات تنافسية من خلال تعمد تخفيض قيمة عملاتها بغية رفع درجة تنافسيتها في مقابل تنافسية الدول الأخرى في العالم لمعالجة ضغوط سوق العمل المرتفعة في ذلك الوقت. غير أن كل عملية تخفيض لم تكن تساعد الدولة بقدر ما كانت تعمق من المشكلات التي تواجهها شركاؤها في التجارة، والتي كانت ترى أن ركودها يزداد مع كل عملية خفض في قيمة عملات شركائها التجاريين، الأمر الذي دفع كافة الدول بما في ذلك تلك التي كانت تحرص دائما على استقرار عملاتها إلى سلوك الاتجاه نفسه، وبالتالي لم يستفد أحد في النهاية من المنافسة على تخفيض قيمة العملات، وانحصرت الآثار الأساسية من حرب العملات في رفع مستويات الضغط السياسي في دول العالم كافة، ورفع درجات عدم التأكد حول عدم استقرار معدلات الصرف، وتقييد النظام التجاري الدولي. حرب العملات إذن تعني التلاعب بقيمة العملات بهدف تشجيع الصادرات وتقليل الواردات من الخارج لرفع مستوى النشاط الاقتصادي المحلي ثم رفع معدلات النمو، ومن ثم فإن حرب العملات هي في جوهرها، حرب على الوظائف، حيث تستهدف كل دولة من وراء الحرب محاولة سرقة وظائف الآخرين وتحويلها إلى سوق العمل المحلية، لخفض معدلات البطالة لديها وامتصاص ضغوط سوق العمل.

عندما تكون الظروف الاقتصادية طبيعية، تستطيع دول العالم أن تتعامل بهدوء نسبيا مع أي تغيرات لمعدلات الصرف، ولكن عندما يكون العالم في أزمة، ترتفع درجة حساسية الدول لأي إجراءات تتخذها دول العالم الأخرى وتصب في قيمة عملتها على المستوى الدولي، ولذلك في ظل تعقد الأوضاع الاقتصادية لدول العالم حاليا، ينظر إلى سياسات التدخل من جانب أي دولة في العالم على أنه عمل من أعمال حرب العملات.

مصطلح حرب العملات هو مصطلح جديد نسبيا على الساحة، وقد أخذ في الانتشار السريع مع تصريح وزير المالية البرازيلي “جويدو مانتيجا” بأن حرب العملات العالمية قد انطلقت مع قيام حكومات بعض الدول بالضغط على معدلات صرف عملاتها بهدف تشجيع تنافسيتها، ومنذ ذلك الوقت والمصطلح يتردد بقوة، حيث ازداد الجدل حول حتمية إقدام العالم على مرحلة جديدة من حرب العملات، وأخذ الكثير من دول العالم يدرس إمكانية فرض قيود على تدفقات حركة رؤوس الأموال إليها، تفاديا لما يمكن أن تتعرض له اقتصادياتها الوطنية نتيجة لمثل هذه التدفقات.

غير أنه عندما نقارن بين الأوضاع الاقتصادية الحالية مع تلك التي سادت في الثلاثينيات من القرن الماضي، نجد أن هناك بعض عناصر التشابه والكثير من عناصر الاختلاف. عناصر التشابه تتمثل في أن العالم قد أصيب بأزمة خانقة في الحالتين، ومثلما هو الحال في الثلاثينيات، جربت الدول الصناعية حاليا جميع أدوات السياسات للخروج من الأزمة ومواجهة الضغوط الانكماشية، غير أنها فشلت جميعا في تحقيق ذلك في الوقت المناسب وبالتكلفة المناسبة. على الجانب الآخر نجد أن من المزايا التي يتمتع بها النظام الاقتصادي الدولي حاليا هو سيادة نظام أسعار الصرف المعومة، وهو ما يمكن كل دولة من أن تتبع السياسات التي ترى أنها تتوافق مع أحوالها الاقتصادية، على الرغم من أن ذلك يخلق الكثير من المخاطر، نظرا لعدم وجود قاعدة تحكم النظام مثلما كان عليه الحال في ظل نظام الذهب، ومن ثم فإن على كل دولة أن تحاول حاليا إيجاد التوازن المناسب بين أهدافها الداخلية والخارجية، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم حاليا بمعزل عن التعاون والتنسيق ما بين دول العالم الأخرى، وهو ما كان يفتقده العالم في فترة ما بين الحربين، حيث إن من أهم الجوانب الإيجابية للهيكل الاقتصادي العالمي حاليا هي ارتفاع درجة التنسيق والتعاون بين دول العالم، على الأقل بين الاقتصاديات الكبرى منها، في إطار تجمع عالمي مؤسسي، على سبيل المثال مجموعة العشرين.

مظاهر الحرب

لفترة طويلة من الزمن تتهم الولايات المتحدة الصين بأنها دولة تحرص على ربط عملتها بالدولار الأمريكي عند معدل صرف منخفض بالنسبة للدولار، واستخدام احتياطياتها من وقت إلى آخر لأغراض التدخل في سوق النقد الأجنبي بهدف الإبقاء على اليوان الصيني مقوما بقيمة أقل من قيمته الحقيقية، الأمر الذي مكن الصين من تحقيق فوائض ضخمة في ميزان مدفوعاتها وتراكم احتياطياتها حتى بلغت وفقا لآخر التقارير 2.6 تريليون دولار. فقد اتبعت الصين استراتيجية التصدير كمحرك للنمو، وذلك بعملة منخفضة القيمة كجزء أساسي من هذه الاستراتيجية، وقد جعلت العملة المنخفضة في القيمة الصادرات الصينية أرخص بالنسبة للمستهلكين في الولايات المتحدة وفي العالم أجمع، بينما جعلت الواردات من الخارج أكثر تكلفة بالنسبة للمستهلك الصيني، وهو ما أجهض القدرات الأمريكية وقدرات الدول الأخرى على التصدي للصين بشكل عام، مما أدى إلى تقوية المركز التنافسي للصين في مقابل جميع دول العالم بما في ذلك الاقتصادات الناشئة التي تتمتع بالمزايا النسبية نفسها التي تملكها الصين.

الولايات المتحدة تتهم الصين بأنها تعلن الحرب التجارية رسميا، وتمارسها بالفعل منذ سنوات، من خلال تدخلها السافر في تحديد قيمة عملتها وعدم ترك اليوان يخضع لقوى العرض والطلب، وباستخدام احتياطياتها الدولارية الضخمة، تتدخل الصين، كلما تطلب الأمر، كي تحافظ على اليوان منخفضا بالنسبة للدولار، ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أن الصين تصنع ميزة تنافسية مصطنعة أو زائفة للسلع التي تقوم بإنتاجها، حتى تصبح هذه السلع رخيصة الثمن بالنسبة للعالم عندما تباع بالدولار، وهو ما يضمن أن تكون صادرات الصين مستمرة في النمو، وتحقق الصين فوائض ضخمة في ميزانها التجاري نظرا أيضا لضغطها على الواردات إليها. إذا كانت عملة الصين حرة كان من المفترض الآن أن يحدث الآتي:

♦ أن ترتفع قيمة اليوان بصورة كبيرة نظرا للطلب العالمي الشديد على الصادرات الصينية، الأمر الذي أفقد الدول الناشئة الأخرى في العالم مثل ماليزيا وإندونيسيا... إلخ، كثيرا من المزايا النسبية التي تمتلكها وتشترك فيها مع الصين، وهي رخص تكلفة العمالة.

♦ أن ينخفض الطلب على الصادرات الصينية ويتحول بالصادرات الصناعية إلى دول أخرى تشترك مع الصين في الميزة النسبية نفسها، مثل الدول الناشئة في العالم كفيتنام.

♦ أن يحدث تحول في اتجاه الاستثمار الأجنبي المباشر من الصين إلى الدول الأخرى للاستفادة من الفرص التي يتيحها الاستثمار في هذه الدول.

♦ أن تتزايد واردات الصين من الخارج مع ارتفاع قيمة عملتها وارتفاع القوة الشرائية لدخول سكانها.

♦ انخفاض الاختلالات التجارية بين الصين والعالم.

غير أن شيئا من هذا لم يحدث بسبب استمرار الصين في الضغط على عملتها في سوق الصرف الأجنبي.

الصين ترى أن اتهامات الولايات المتحدة لها بالتلاعب بعملتها هي محاولة لإلقاء اللوم على الآخرين بدلا من أن تتحمل خطأها هي، حيث تبحث الولايات المتحدة عن كبش للفداء من وجهة نظر الصين، كذلك ترفض الصين تحميلها اللوم على أنها المتسببة في الاختلالات التجارية العالمية السائدة في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة رفض الصين الادعاءات بأن المدخرات الزائدة للصين أو أن ضعف مستويات الطلب المحلي في الصين هي أسباب العجز التجاري في الولايات المتحدة، حيث أشارت إلى أن المشكلات الاقتصادية الأمريكية هي مشكلات محلية الصنع جاءت نتيجة عمليات الإفراط المستمر في الائتمان، وحديثا بسبب الإفراط في عمليات إصدار الدولار، التي أدت إلى عدم استقرار الاقتصاد العالمي.

تلعب الصين حاليا لعبة القط والفأر مع الولايات المتحدة والعالم، فهي من جهة تتعهد برفع قيمة عملتها أمام المحافل الدولية مثل مجموعة العشرين، وتتعهد بإجراء الإصلاحات بشكل مستمر في هذا المجال، غير أنها تتجنب أن تلتزم بتلك التعهدات بشكل مستمر أيضا، وتستخدم احتياطياتها الضخمة من أجل شراء العملات الأجنبية، بصفة خاصة الدولار واليورو للحفاظ على قيمة هذه العملات مرتفعة بالنسبة لليوان. وبدلا من استخدام احتياطياتها الضخمة في تطوير أسواقها ورفع مستويات المعيشة لعمالها ومزارعيها، تقوم الصين باكتناز هذه الاحتياطيات في صورة عملات أجنبية لتبعد هذه الاحتياطيات عن اقتصادها المحلي، من خلال شراء أصول أمريكية، بصفة خاصة السندات، وهو ما يساعد على استمرار مستويات الائتمان مرتفعة في الولايات المتحدة.

لمواجهة جانب من هذه الانتقادات أعلنت الصين أنها تخطط لتخفض فوائضها التجارية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 4 في المائة خلال ثلاث إلى خمس سنوات المقبلة، كذلك حذر رئيس الوزراء الصيني القادة الغربيين قائلا «لا تضغطوا علينا في معدل صرف الرنمينبي»، مشيرا إلى أن شركات التصدير الصينية تحقق حاليا هوامش ربح منخفضة للغاية، من الممكن أن تزول من خلال الإجراءات الحمائية الأمريكية، وإذا حدث ذلك فإن كثيرا من تلك الشركات سيغلق أبوابه، وسيعود الملايين من العمال المهاجرين مرة أخرى إلى قراهم، وإنه لو واجهت الصين اضطرابات اقتصادية واجتماعية فإن ذلك سيكون بمثابة كارثة للعالم.

من جانبها أعلنت الولايات المتحدة بدء جولة جديدة من التيسير الكمي بإصدار 600 مليار دولار، وعلى الرغم من أن الاحتياطي الفيدرالي قد أعلن أن الهدف من الخطة هو تسريع معدلات النمو من خلال زيادة مستويات الائتمان المحلي، فإن الشركاء التجاريين للولايات المتحدة ينظرون إلى الخطة من منظار آخر، حيث يعتقدون أنها تهدف إلى تخفيض قيمة الدولار لجعل الصادرات الأمريكية أكثر رخصا، والواردات من الخارج أغلى ثمنا، وأن هذه الخطوة، في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تسود العالم أجمع حاليا، تؤدي إلى اختلال العلاقة بين العملات المختلفة في العالم بصورة تعمدية، وهو ما ينظر إليه على أنه عمل من أعمال الحرب، الأمر الذي يستلزم التدخل الفوري للدفاع عن مصالحها التجارية التي يمكن أن تتأثر نتيجة البرنامج الأمريكي.

الصين ترى أن السلوك الأمريكي يمكن أن يؤدي إلى أزمة عالمية أخرى، وقد أعلن رئيس البنك المركزي الصيني، أن الصين ستواجه واشنطن من خلال إقامة تحالفات إقليمية للعملة لتسريع عملية الاستخدام العالمي لليوان، التصريح الذي أعلنه رئيس البنك المركزي الصيني فيما يبدو لا يدرك ما ينطوي عليه من آثار في الوقت الحالي، حيث إنه سيؤدي إلى جلب أخشى ما تخشاه الصين، وهو أن يأخذ اليوان قيمته الحقيقية.

من جانبه أشار رئيس البنك المركزي الصيني Zhou Xiaochuan إلى أن سياسات التيسير الكمي، وحرص الولايات المتحدة على الإبقاء على معدلات الفائدة عند مستويات منخفضة، تتشابه أيضا مع عمليات التلاعب بالعملة، الأمر الذي يضر بالمصالح التجارية للدولة الناشئة، حيث تتدفق رؤوس الأموال بصورة كبيرة نحو هذه الدول، ومثلما تتهم الدول الغربية الصين، فإن هذه الدول ضليعة أيضا في تلك الممارسات.

كانت البرازيل أول دولة تنتقد الخطة الأمريكية بإصدار مزيد من الدولار لشراء السندات الحكومية. البرازيل قلقة على مركزها التنافسي وهي ترى أن عملتها تتزايد بشكل مستمر في مواجهة الدولار، فمنذ 2009 حتى الآن ارتفع الريال البرازيلي بنسبة 39 في المائة بالنسبة للدولار، وهو ما يؤثر بصورة سلبية في الصادرات الصناعية للبرازيل إلى الولايات المتحدة. من ناحية أخرى فإن العملات العالمية ترتفع بالنسبة للدولار بعد إقرار خطة التيسير الكمي2، ومن ثم فإن ما كانت الولايات المتحدة تتهم به الصين مرارا وتكرارا بأنها تخفض عملتها بالنسبة للدولار، بما يخل بالتوازن التجاري بين الدولتين على نحو واضح في مصلحة الصين، أصبحت تمارسه الولايات المتحدة حاليا على نطاق واسع.

من وجهة نظر البرازيل فإن هذا الإعلان يمثل خطوة نحو تخفيض قيمة الدولار، بهدف رفع الميزة النسبية للصادرات الأمريكية مقارنة بباقي الدول، وأن هذه الأموال ستذهب إلى الدول الناشئة بحثا عن معدلات أعلى للعائد ومن ثم ترتفع قيم عملات هذه الدول، وهو ما يصب في تقليل المزايا التنافسية لصادراتها، ولكن كيف تذهب أموال التيسير الكمي إلى أسواق الدول الناشئة؟ إن المسألة في غاية البساطة، بما أن الاحتياطي الفيدرالي سيتدخل في سوق السندات لشراء السندات طويلة الأجل بهدف رفع قيمة هذه السندات، ومن ثم تخفيض معدلات العائد عليها، فإن المؤسسات المالية التي ستقوم ببيع هذه السندات لن تعيد استخدام إيراداتها من عمليات البيع في الولايات المتحدة، وإنما ستستخدم هذه الأموال للاستثمار خارج الولايات المتحدة بحثا عن معدلات أعلى للعائد في الخارج، وهو ما يضر بعملات الدول الناشئة.

لتخفيف تعرضها للدولار الأمريكي اشترت الصين 2.3 تريليون ين في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، ما أدى إلى رفع قيمة الين، على عكس ما ترغب فيه الحكومة اليابانية، بنسبة 15 في المائة، وهو ما أثر في معدل نمو الصادرات اليابانية وخفض من سرعة استعادة النشاط الاقتصادي فيها، الأمر الذي استدعى ضرورة التدخل من جانب البنك المركزي الياباني الذي قام ببيع الين بمقتضى عملية تيسير كمي تهدف إلى تخفيض معدل صرفه بالنسبة لباقي العملات الدولية، لامتصاص هذا التأثير من خلال شراء الدولار الأمريكي بهدف خفض معدل صرف الين بالدولار. من ناحية أخرى تعلن الصين أيضا أنها ستشتري كميات كبيرة من السندات الأوروبية، بما في ذك السندات اليونانية مرتفعة المخاطر، وذلك في محاولة منها لمنع اليورو من التراجع، الهدف بالطبع ليس حماية اليورو، وإنما وقف اتجاه اليورو نحو التراجع والحفاظ على قيمته مرتفعة في أسواق الصرف الأجنبي، الأمر الذي يرفع من تنافسية الصين في مواجهة منطقة اليورو.

على ما يبدو فإن الاحتياطيات الضخمة للصين أصبحت تمثل سلاحا فتاكا يمكن توجيهه نحو أي عملة لضمان استمرار تفوق الميزة النسبية للصين في مجال إنتاج السلع الصناعية. المشكلة الأساسية التي يمكن أن تواجهها الدول التي تهاجمها الصين، مثل اليابان، هي أن هذه الدول لا يمكنها الرد بتوجيه أسلحتها ضد اليوان الصيني، لأنه عملة غير قابلة للتحويل أصلا، ومن ثم فإنه غالبا ما ستوجه الدول أسلحتها نحو الدولار، مثلما فعلت اليابان.

حتى هذه اللحظة لا يمكن الجزم بأن الصين تستخدم فعلا احتياطياتها لضرب عملات باقي دول العالم بهدف تحقيق أهداف تجارية، ولكنها تبقى سلاحا قذرا للغاية إذا ما تم تفعيله على هذا النحو. لقد وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية، السيدة هيلاري كلينتون أثناء الانتخابات الرئاسية الاحتياطيات الصينية، بأنها تمثل الخيار النووي الذي يمكن أن توجهه الصين ضد الولايات المتحدة.

مع موجات التيسير الكمي في الولايات المتحدة واليابان أخذ المستثمرون بالبحث عن معدلات أعلى للعائد في دول أخرى، بصفة خاصة الدول الناشئة، وهو ما أدى إلى تدفقات هائلة من رؤوس الأموال إلى الاقتصاديات الناشئة. على سبيل المثال بلغ صافي تدفقات رؤوس الأموال للاستثمار في محافظ الأوراق المالية في البرازيل 65 مليار دولار، وهو ما يعد أعلى مستوى لهذه التدفقات خلال الـ 15 عاما الماضية. بينما بلغت تدفقات رؤوس الأموال بهدف الاستثمار في محافظ الأوراق المالية في كوريا 46 مليارا حتى آب (أغسطس) 2010، وهو ما يؤدي إلى تصاعد الضغوط على عملات هذه الدول نحو الارتفاع، ومن ثم التأثير سلبا في تنافسيتها، وهو الأمر الذي وضع صانعي السياسة الاقتصادية في الدول الناشئة تحت ضغط العمل على خفض قيمة عملاتهم، ومقاومة الضغوط نحو الارتفاع في مواجهة عملات مثل الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني.

ردود الفعل لطبول الحرب

التحركات التي قامت بها اليابان والولايات المتحدة، وبالطبع الصين، لم تترك للعالم من سبيل آخر سوى بدء حملة من الدفاع عن عملاتها للحفاظ على تنافسيتها. فقد تدخل العديد من دول العالم بما فيهم البرازيل والهند وإندونيسيا وإسرائيل واليابان وكوريا وماليزيا والفلبين وماليزيا وسنغافورة وجنوب إفريقيا وسويسرا وتايوان وتايلاند في سوق الصرف الأجنبي، أو قاموا بفرض ضرائب على تحركات رؤوس الأموال، وبدلا من ترك عملاتها ترتفع في سوق الصرف الأجنبي، قامت هذه الدول بالاستجابة إلى تدفقات رؤوس الأموال من خلال التدخل في سوق الصرف الأجنبي لشراء العملات الأجنبية لتفويت فرصة تحقيق عوائد استثمارية أعلى على أراضيها، حيث إن فروق معدلات العائد سيفقدها المستثمرون نتيجة ارتفاع معدلات الصرف الأجنبي، أو أن تقوم بفرض ضرائب على تدفقات رؤوس الأموال، حيث يترتب على تحمل المستثمرين لهذه الضرائب ضياع فروق العوائد بين الدول الناشئة ودول الأصل التي تتدفق منها رؤوس الأموال هذه، وباختصار فقد تمثلت ردود أفعال الدول الناشئة لتدفقات رؤوس الأموال إليها في الآتي:

رفع الضريبة على الاستثمارات المالية، على سبيل المثال أعلنت كوريا الجنوبية أنها ستعيد فرض الضريبة على إيرادات المستثمرين في السندات الحكومية بنسبة 14 في المائة، كذلك أعلنت تايلاند فرض ضريبة بنسبة 15 في المائة على مدفوعات الفوائد أو الإيرادات الرأسمالية التي يحققها المستثمرون الأجانب في السندات التايلاندية .. كما قامت البرازيل بمضاعفة ضريبة تدفقات رؤوس الأموال لكي يساعد ذلك على القضاء على فروق معدلات العائد بين السندات البرازيلية والأمريكية.

♦ شراء الدولار الأمريكي بواسطة البنوك المركزية.

♦ زيادة الضريبة على المعاملات في المشتقات المالية.

♦ استخدام موارد صناديق الثروة السيادية للتدخل في الوقت المناسب لشراء العملات الأجنبية لتخفيف الضغوط على العملات المحلية.

♦ تعديل نظم ولوائح التعامل في النقد الأجنبي، بصفة خاصة فيما يتعلق بتوسيع نطاق الرقابة على عمليات البنوك في المشتقات المالية وتدفقات رؤوس الأموال إلى الداخل.

♦ فرض ضرائب على الاحتفاظ بالسندات بواسطة الأجانب.

من ناحية أخرى، تتصاعد التوقعات بأن الولايات المتحدة ربما تلجأ إلى فرض ضريبة جمركية حمائية على وارداتها من الصين لمواجهة تحركات الصين باعتبارها دولة تتلاعب بعملتها، وكرد فعل لذلك أقر مجلس النواب قانونا يسمح للشركات الأمريكية بأن تسعى لفرض ضريبة حمائية ضد الدول التي تخفض قيمة عملاتها وذلك بأغلبية كبيرة، كذلك كان موضوع الممارسات غير العادلة التي تقوم بها الصين أحد الموضوعات الساخنة والحاضرة بقوة في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ والكونجرس الأمريكي. غير أنني أكاد أجزم بأن مثل الإجراء ربما يكون غير متوقع الحدوث، ما هو متوقع الحدوث أن تستمر الولايات المتحدة في ممارسة أقصى درجات الضغط السياسي على الصين بدلا من اللجوء إلى إجراءات حمائية مثل الضرائب الجمركية أو القيود الكمية. فالتلويح بفرض ضرائب جمركية على الواردات الصينية ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض، ذلك أن مثل هذا القرار لا بد أن يتماشى مع قواعد منظمة التجارة العالمية في هذا المجال، من ناحية أخرى فإن هناك تكاليف إضافية لهذه الخطوة، وهي أنه بغض النظر عن الفجوة في الحساب الجاري التي سيتم سدها من جانب دول أخرى غير الصين، فإن الضريبة على الوردات سيترتب عليها رفع أسعار الواردات، ومن ثم مستويات أعلى من الأسعار للمستهلك. ولكن الأهم من هذا كله هو هل سيؤدي ذلك إلى رفع مستويات التوظف في الولايات المتحدة؟ الإجابة بالتأكيد هي لا، نظرا لتراجع القدرات التنافسية الأمريكية مقارنة بالمزايا التنافسية للدول الناشئة. من ناحية أخرى حذرت الصين من أنها لن تقبل أي إجراءات حمائية تفرض ضدها، حيث لن تقف مكتوفة الأيدي حيال، ذلك، وإنما ستقوم باتخاذ ما يلزم من جانبها.

هل تقوم الحرب بالفعل؟

قبل عقد قمة مجموعة العشرين الماضي في كوريا الجنوبية توقعت أنه لن تقوم حرب للعملات، وأن القمة ستتعامل مع ضغوط حرب العملات بصورة أكثر عقلانية وبما يحقق مصالح الجميع، ويضمن استقرار تدفقات رؤوس الأموال والسلع على المستوى الدولي، وبالفعل جاءت نتائج القمة وفق ما توقعت، فقد اتفق المؤتمرون على ضرورة إعطاء أدوار أكبر لقوى السوق في تحديد معدلات الصرف السوقية، طبعا المقصود بذلك هو الصين، كما تم التأكيد على أهمية اللجوء إلى الإصلاحات الهيكلية من أجل معالجة الاختلالات التجارية العالمية، في إشارة إلى الولايات المتحدة، وبمعنى آخر تمكنت القمة من تجنب الخوض في الحديث عن الحرب التجارية القادمة، والذي لا شك فيه أنه لو حدث، سيكون أسوأ سيناريو للقمة. بانتهاء القمة خفت مخاطر حدوث حرب العملات بصورة جوهرية.

ولكن هل يعني ذلك تلاشي مخاطر اشتعال الحرب؟ الإجابة هي لا، فمما لا شك فيه أن الأمر سيعتمد على عدة عوامل أهمها مسار الأزمة في المستقبل ومدى تحسن الأوضاع أو سوؤها، ودرجة التعاون الدولي في هذا المجال، غير أنني أميل إلى أن أرى أن العالم لم يعد بهذا المستوى من الغباء الاقتصادي الذي ساد في فترة ما بين الحربين، وأن العالم سيفضل مصالحه على المستوى الكلي بصورة أكبر عن تلك التي يمكن أن تتحقق على المستوى القطري، ومن ثم فإن فرص واحتمالات قيام الحرب تظل في النهاية محدودة للغاية في وجهة نظري، وبالفعل كانت ردة الفعل الرسمية للإعلان عن نشوب حرب العملات، هي أن العالم سيحاول تجنب هذه الحرب، ويركز على العوامل التي تحفز النمو والتعاون الدولي من أجل الخروج من الأزمة، مثل هذه النغمة لم تكن سائدة في أوقات ما بين الحربين. فمن المؤكد أن الدول التي تضار من حرب العملات لن تقف مكتوفة الأيدي، ولا بد أنها ستقدم في النهاية على اتخاذ إجراءات انتقامية إما من خلال تخفيض مماثل أو من خلال فرض ضرائب لمواجهة مثل هذه الممارسات الضارة تجاريا بالنسبة لها، أو أن تتدخل بشكل مباشر لوقف تدفقات رؤوس الأموال إليها، وهكذا شيئا فشيئا تزداد العوائق أمام التدفق التجاري الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر دول العالم، ويحدث اضطراب تجاري عظيم، تكون نتيجته ضعف استفادة دول العالم من التبادل التجاري الحر، سواء تلك التي خفضت عملاتها أو تلك التي ردت على هذا التخفيض بتخفيض مماثل أو بتقييد التجارة وتدفقات رؤوس مع شركائها، وفي ظل هذه الأوضاع تفقد دول العالم فرص الاستفادة من المزايا النسبية التي تمتلكها، وكذلك العوائد التي يمكن أن تنشأ عن التبادل التجاري الحر للسلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر مختلف دول العالم.