تناولنا في الحلقة السابقة متطلبات تحول اليوان الصيني إلى عملة دولية والاستحقاقات التي يجب ان تستوفيها الصين، بصفة خاصة تحرير حساب رأس المال في ميزان مدفوعاتها، بحيث تتحرر رؤوس الأموال من أية قيود تحول دون تدفقها، وتحرير معدل صرف اليوان، وتحرير السياسات النقدية، وتطوير سوق عميقة ومتسعة لأدوات الدين الصيني قصيرة الأجل، فضلا عن منح البنك المركزي الاستقلالية التامة. في مقال اليوم نتناول الخطوات العملية التي اتخذتها الصين لتسهيل عملية تحويل اليوان إلى عملة دولية، وهل بالفعل الصين مستعدة لكي تسمح لليوان أن يتحول إلى عملة دولة أم أنها غير راغبة أو ربما غير مستعدة لتدويل اليوان.
قبل أن نبدأ في التحليل علينا ان نفرق بين تعريفين للعملات الرئيسية في العالم، التعريف الأول وهو العملة الدولية، وهي العملة التي يمكن ان تستخدم في تسوية المعاملات التجارية والمالية بين الدول، وفي هذا الصدد هناك عدد لا بأس به من العملات الدولية، أهمها الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي والين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري. أما التعريف الثاني فهو عملة الاحتياط العالمية، وهي العملة التي تحتفظ بها البنوك المركزية لدول العالم ضمن سلة احتياطياتها لتغطية جانب من الإصدار للعملة الوطنية، وكذلك لأغراض التدخل في الوقت المناسب في سوق النقد الأجنبي للدفاع عن عملتها، وفي هذا الصدد لدينا عملتين فقط، تقريبا هي على الترتيب الدولار واليورو. تدويل اليوان إذن هو تحويله أولا إلى عملة دولية تستخدم في تسوية المعاملات التجارية والمالية بين دول العالم، ثم إذا حاز اليوان ثقة العالم يتم تحويله إلى عملة احتياط عالمية مثل الدولار الأمريكي.
والآن ما هي الخطوات التي اتخذتها الصين في سبيل تحويل اليوان إلى عملة دولية؟ بشكل عام وحتى هذه اللحظة ترحب الصين بتدفقات رأس المباشر إليها، وكذلك بتسوية بعض المعاملات الخارجية باليوان، كما تسمح بحرية دخول العوائد الخارجية من جانب الشركات الصينية وكذلك بتحويلات العمال الصينيين في الخارج. أما أهم الخطوات التي اتخذتها الصين حيال تدويل اليوان فهي:
• منذ ديسمبر 2008 قامت الصين بتوقيع 6 اتفاقيات للترتيبات المتبادلة bilateral swaps بـ 650 مليار يوان (حوالي 95 مليار دولارا) مع اندونيسيا وجنوب كوريا وهونج كونج وماليزيا وروسيا البيضاء والأرجنتين، بحيث تسمح هذه الاتفاقيات لهذه الدول بتحويل عملاتها إلى اليوان. غير ان أهمية مثل هذه الاتفاقيات بالنسبة لإجمالي التجارة الخارجية للصين تعد محدودة. وبمقتضى اتفاقيات الترتيبات المتبادلة سوف تسمح الصين لتلك البنوك المركزية بأن تقوم ببيع اليوان الصيني للمستوردين في تلك الدول لتمكينهم من استيراد السلع الصينية باليوان، ذلك أن تسوية المعاملات التجارية باستخدام اليوان يعد أكثر مناسبة لكل من الشركات الصينية والشركات الأجنبية التي تتبادل تجاريا مع الصين، حيث سيساعد ذلك الشركات الأجنبية على التقليل من تكاليف المعاملات والتي تتحملها من جراء تحويل عملتها المحلية إلى الدولار الأمريكي (العملة التي تقبلها الصين أساسا في مقابل الصادرات)، ويساعد كذلك الشركات الصينية على التقليل من مخاطر تقلبات معدل صرف الدولار.
• بدأت ثلاث من أكبر الشركات الصينية هي: Shanghai Silk Group وShanghai Electric Group Co. وShanghai Huanyu Import & Export Co. بالفعل في توقيع عقود تسوية صفقات صادراتها ووارداتها باليوان الصيني بدلا من الدولار الأمريكي مع هونج كونج واندونيسيا.
• سمحت الصين للمصدرين والمستوردين في الأقاليم الجنوبية بأن يقوموا بتسوية المبادلات التي تتم عبر هذه الأقاليم مع الشركات الأجنبية باليوان، كذلك سمح للبنوك الأجنبية ان تفتح حسابات باليوان لعملائها من الشركات في مواقع مثل هونج كونج وسنغافورة.
• تم اختيار هونج كونج لكي تكون مركز اختبار لأنشطة سوق رأس المال في اليوان، حيث يسمح لبعض البنوك في هونج كونج بأن تقوم بإصدار أوراق مالية باليوان الصيني مع السماح للمقيمين في هونج كونج وكذلك البنوك المحلية فيها بشراء هذه الأوراق المالية، ومثل هذه الخطوة يمكن ان تساهم في خلق سوق رأس مال "أوف شور" لليوان، والذي من شأنه أن يعجل من تحرير معدل الفائدة في باقي أنحاء الصين بدلا من الوضع الحالي حيث يتم تحديد معدل الفائدة بواسطة البنك المركزي الصيني.
• قامت الصين بوضع نظام للتسوية متعددة الأطراف يتم إدارته بواسطة جهاز التجارة في الصرف الأجنبي الصيني China Foreign Exchange Trading System (CFETS), والذي سيشمل خدمات تسوية المعاملات التجارية لواحد وعشرين إقليما صينيا مع الأسواق الدولية للتجارة في اليوان في مقابل الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني ودولار هونج كونج.
• بدأت الصين بإجراء عدد من الترتيبات المتبادلة في اليوان الصيني Swaps بمقتضاها تقوم الصين بتوفير اليوان للبنوك المركزية ليتم استخدامه لأغراض تمويل المعاملات التجارية مع الصين وذلك لكل من الأرجنتين وهونج كونج واندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية.
• في سبيل توسيع نطاق استخدام اليوان في تسوية المعاملات التجارية، عقدت الصين اتفاقيات مع البرازيل في مايو 2009 لتسوية واردات البرازيل من الصين باليوان، بينما يتم تمويل واردات الصين من البرازيل باستخدام الريال، لأول مرة بدون استخدام الدولار الأمريكي.
على الرغم من ان مثل هذه الاتفاقيات قد ينظر إليها على أنها خطوة هامة في سبيل تدويل اليوان، إلا أن مثل هذه الاتفاقيات تواجه قيودا تضع الكثير من الشكوك حول احتمالات نجاحها على المدى الطويل، فالتجارة بين بلدين بعملتين غير قابلتين للتحويل سوف يتطلب من الناحية الفنية تدخل البنك المركزي للدولتين بشكل مستمر في جميع الصفقات التجارية التي سيتم إبرامها بينهما، وهو مما لا شك فيه لا يمثل إطارا ناجحا للتعامل التجاري على نحو كفء أو فعال.
من ناحية أخرى فإن طبيعة اتفاقيات الترتيبات المتبادلة الموقعة بين الصين والدول الأخرى ربما تثير التساؤل حول الميزة التي يمكن ان تحصل عليها دول العالم من مثل هذه الاتفاقيات في عملة غير قابلة للتحويل مثل اليوان. فالدول التي ستسجل فوائض في اليوان سيمكنها فقط ان تستخدمه في سداد قيمة وارداتها من الصين، وليس لأي استخدام آخر، ومن ثم ستواجه هذه الدول ورطة حقيقية في كيفية التصرف في هذه الفوائض. فمن ناحية لا يمكنها ان تستثمر هذه الفوائض في أدوات دين صينية نظرا لعدم تحرير حساب رأس المال الصيني، كذلك لا يمكنها ان تستخدمها لسداد قيمة وارداتها من دولة أخرى غير الصين ما لم يتم تطوير هذه الاتفاقيات لتصبح على شكل مناطق تجارية تسمح باستخدام اليوان كعملة مشتركة فيما بينها، وهو ما يقتضي مرة أخرى تحرير اليوان، على الأقل على نطاق المنطقة التجارية، كذلك لن تتمكن الدول صاحبة الفوائض في استخدام اليوان في الدفاع عن عملتها في سوق الصرف الأجنبي إذا ما تعرضت لضغوط، نظرا لأن اليوان غير قابل للصرف أصلا.
وعلى ذلك فإن تحرير التعامل في اليوان الصيني من خلال اتفاقيات التسوية الثنائية أو متعددة الأطراف، ليس هو السبيل الأمثل لتحرير اليوان، وفي وجهة نظري لا يعد خطوة في الطريق السليم لتدويل اليوان. ذلك أن مثل هذه الاتفاقيات تعد بمثابة استمرار للسيطرة الرقابية على معدل صرف اليوان وإبعاده عن قوى السوق.
أكثر من ذلك فإن التوسع في مثل هذه الاتفاقيات سوف يتطلب من الصين ان تنشئ نظاما مركزيا للمعاملات في اليوان على غرار النظام الذي يستخدمه صندوق النقد الدولي لتنظيم التعامل في حقوق السحب الخاصة، وهو ما يقلل من أهمية اليوان نظرا للقيود الإدارية المفروضة على استخدامه. ذلك أنه بما ان اليوان غير قابل للتحويل فان استخدامه في عملية تمويل صفقة أخرى ليست الصين طرفا فيها لا بد وان يتطلب موافقة الصين على هذه الصفقة حتى تقبل استخدام اليوان من الطرف الآخر في سداد قيمة الصادرات الصينية. التجارب الدولية في مثل هذه الاتفاقيات باءت جميعها بالفشل نظرا للضغط الإداري والروتيني الشديد المصاحب لتسوية المعاملات في ظل هذه الاتفاقيات.
ما تفعله الصين حاليا هو التحرير الجزئي لعمليات تمويل تجارتها الخارجية باليوان، أي بالنسبة لعمليات ميزانها التجاري، بينما لا تقوم بتحرير اليوان بالنسبة لعمليات حساب رأس المال في ميزان مدفوعاتها. من ناحية أخرى فإن الصين لا تنوي على ما يبدو أيضا أن تحرر معدل صرف اليوان وفقا لقوى العرض والطلب، حيث ما زال البنك المركزي الصيني لا يسمح لليوان بأن يتحرك بالنسبة للدولار سوى في حدود نصف في المائة بشكل يومي ارتفاعا أو انخفاضا.
أكثر من ذلك فإنه ليس من مصلحة الصين حاليا أن يقل الطلب العالمي على الدولار الأمريكي أو أن يتراجع دوره كعملة احتياط عالمية، باعتبارها أكثر دول العالم التي يمكن أن تخسر من جراء تدهور قيمة الدولار نتيجة انخفاض الطلب عليه، وذلك بسبب الاحتياطيات الضخمة التي تحتفظ بها الصين من الدولار الأمريكي ومن أدوات الدين الأمريكية.
على الرغم من أن الظروف الحالية هي أفضل الظروف التي يمكن ان تسنح لليوان لأن يستخدم على نطاق دولي مستفيدا من ضعف العملات الدولية مثل الدولار الأمريكي واليورو، إلا أنه من الواضح أن الصين لا ترغب أصلا في تحويله إلى عملة دولية، فمما لا شك فيه أنه عندما تنتهي الأزمة ستعود الثقة مرة أخرى في العملتين الرئيسيتين الدولار واليورو وتتضاءل بالتالي احتمالات نجاح جهود الصين في تحويل استخدام عملها كعملة دولية.
إن تحويل اليوان إلى عملة دولية سوف يستدعي بالضرورة، كما سبقت الإشارة، تحرير معدلات صرفه، وهو ما سوف يعرض اليوان الصيني للارتفاع في القيمة نتيجة ضغوط الطلب في سوق الصرف الأجنبي لليوان، وهو الأمر الذي تحاول الصين تجنبه منذ فترة طويلة، من خلال عدم الاستجابة للمطالبات العالمية برفع قيمة اليوان، وذلك لكي تضمن لصادراتها ميزة تنافسية إضافية ناجمة من انخفاض قيمة اليوان عن المستويات الحقيقية له، الأمر الذي يجعل السلع الصينية رخيصة نسبيا مقارنة بتلك السلع المنافسة لها والمصنوعة في دول جنوب وشرق آسيا من جيرانها، أو في الدول الناشئة الأخرى مثل البرازيل. وإذا ما تحقق ذلك فلا شك في أن الصين سوف تخسر جانبا من مزاياها التنافسية التي تتمتع بها حاليا بسبب سياسة اليوان الرخيص، الأمر الذي قد يمثل بداية النهاية لسياسات الدعم المستتر للصادرات الصينية إلى دول العالم، ومن الواضح أن الصين غير جاهزة حاليا لأن تدفع ثمن هذا الخيار من تنافسيتها التجارية في مقابل الدول الأخرى.
ما هي الخلاصة من التحليل السابق؟ الخلاصة هي ان الخطوات التي اتخذتها الصين حتى الآن لا تصب في استخدام اليوان كعملة دولية، ناهيك عن استخدامه كعملة احتياط عالمية، بقدر ما تصب في استخدام اليوان في تسوية المعاملات التجارية للصين مع شركاءها في التجارة وتقليل الاعتماد على استخدام الدولار الأمريكي. هناك إذن قدر كبير من الشكوك المحيطة بقدرة الصين على تحدي العملة الخضراء، وعلى أفضل السيناريوهات المحتملة فان اليوان الصيني يمكن أن يصبح عملة دولية ثانوية مثل الين الياباني أما تحول اليوان إلى عملة احتياط عالمية مثل الدولار فسوف يستغرق وقتا طويلا جدا، أو ربما ينجح اليوان الصيني كعملة احتياط إقليمية أي بين الصين وجاراتها نظرا لقوة العلاقات الاقتصادية بينها، أما على المستوى الدولي فان العملية لا شك تحتاج إلى متطلبات لن تستطيع الصين استيفاءها سواء في الأجل القصير أو المتوسط أو حتى من ناحية استيفاء المتطلبات الهيكلية اللازمة لذلك.