كان وما زال النظام البنكي العالمي المتهم الأول في الأزمة المالية العالمية التي عصفت بمعظم اقتصادات الدول المتقدمة والناشئة على حد سواء، وإن بدرجات متفاوتة؛ لذلك، اتخذت السلطات التنظيمية ذات الطبيعة العالمية كبنك التسويات الدولية، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي خطوات متتابعة ومتشددة أكثر تجاه الاقتراض اللامسؤول على مستوى القروض السيادية، إلى جانب الحرص على رفع معدلات كفاية رأس المال، كما اتضحت خطوطه العريضة في متطلبات بازل 3 مقارنة بسلفه بازل 2، الذي كان أقل تشددا. كما اتجهت السلطات النقدية والمالية المحلية في مختلف دول العالم إلى مراجعة القوانين والأنظمة التي تحكم عمل القطاع البنكي لما لهذا القطاع من أهمية مركزية وتأثير متشابك مع جميع القطاعات والنواحي الاقتصادية الأخرى بصورة تنذر بانهيارات قطاعية متتابعة تتعدى القطاع المالي لتطول قطاعات الاقتصاد الحقيقي في حال تعرض القطاع المصرفي لأي انهيار.
وكالحال في ظل الظروف الاقتصادية والأزمات المختلفة، تتجه الأدبيات الاقتصادية نحو البحث والتحليل والتوجه نحو التركيز على جوانب الأزمات لمعرفة طبيعتها، مسبباتها، تبعاتها، وطرق التعامل معها من خلال توظيف المعرفة الاقتصادية وأدوات التحليل القياسية والإحصائية والرياضية لتحليل البيانات والمعلومات المتوافرة عن أحد المتغيرات، كما حدث من تحليل متعمق لأسعار الصرف وتأثيراتها في الأزمة المكسيكية عام 1994، وأبحاث تتعلق بآثار الاستثمار الأجنبي وتحركات الأموال الساخنة بعد الأزمة الاقتصادية الآسيوية في صيف 1997، وتوجه الأدبيات لتحليل الاقتصاد الجديد وتأثير التقنية في رفع الكفاءة والناتج الكلي باستخدام موارد محدودة في أعقاب انفجار فقاعة الدوت كوم في صيف عام 1999، ووصولا إلى تركز الأبحاث الاقتصادية في السنتين الأخيرتين على الرقابة والتنظيم ودور الحكومة في الاقتصاد، إضافة إلى مراجعة بعض المسلمات الرأسمالية ''كالتحرير من القيود التنظيمية'' أو ''دعه يمر دعه يعمل''، التي ترسخ تطبيقها منذ الحقبة الريجنية الثاتشرية مطلع الثمانينيات، وإلى أن ضربت الأزمة المالية العالمية الأخيرة بأطنابها في مختلف القطاعات، وعلى رأسها القطاع المالي؛ ما سبب جفاف سوق الائتمان.
وفي سياق متصل بالأزمة المالية العالمية ووضع النظام البنكي في دول الخليج، صدرت عن صندوق النقد الدولي مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الحالي ورقة عمل بعنوان ''القروض غير العاملة في النظام البنكي الخليجي وتأثيراتها الاقتصادية الكلية'' لمؤلفيها رافائيل إسبنوزا وأنانثاكريشنان براساد، حيث تتناول الورقة القوائم المالية والديون غير العاملة لنحو 80 بنكا خليجيا للفترة 1995 ـ 2008 وعلاقة الديون غير العاملة بالاقتصاد الكلي وبالعوامل الخاصة بالبنوك نفسها، إضافة إلى تأثير خسائر البنوك والديون غير العاملة في النشاط الاقتصادي. وتوصلت الورقة إلى نتائج منطقية عدة وغير مستغربة، منها ارتفاع نسبة القروض غير العاملة للبنوك في دول الخليج مع تراجع النمو الاقتصادي ممثلا في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي ومع ارتفاع أسعار الفائدة، وزيادة القروض غير العاملة عند نمو حجم الائتمان في فترات سابقة، ووجود تأثير للعوامل الداخلية للبنك ومعدل أخذ المخاطرة على حجم القروض غير العاملة، وبأن هناك تأثيرا قويا، لكنه يمتد لفترات قصيرة لخسائر البنوك على نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي. ثم اختتمت الدراسة بالتوصية بأن على دول الخليج اتباع سياسات تنظيمية حصيفة مع توفير مخصصات يتناسب حجمها عكسيا مع تحركات الدورات الاقتصادية لتجاوز تأثير الهزات الاقتصادية الكلية في القطاع البنكي وتفادي تأثير مخاطر الائتمان في الاقتصاد.
حقيقة، نتائج هذه الدراسة وتوصياتها لا تضيف معلومات جديدة غير التأكيد على ما هو معروف مسبقا بشأن محددات القروض غير العاملة وأداء البنوك، إلى جانب التأثير المتبادل بين النمو الاقتصادي الحقيقي وأداء البنوك باستخدام طرق تقدير قياسية مختلفة وبتغطية لعينة كبيرة نسبيا من البنوك الخليجية. وعلى الرغم من فوائد كبر حجم العينة المستخدمة في البحث، إلا أن هناك اختلافات بين أداء البنوك الخليجية وهيكل عملها من دولة إلى أخرى كان من المفترض أن تؤخذ في الحسبان، حيث إن درجة تعرض البنوك الخليجية تختلف من قطاع إلى قطاع ومن دولة إلى أخرى. فعلى سبيل المثال، يلاحظ تركيز محفظة إقراض الشركات للبنوك الإماراتية على شركات التطوير والاستثمار العقاري، بينما يلاحظ ميل محافظ إقراض الشركات في السوق السعودية إلى قطاعات معينة كالإنشاءات والمقاولين المتعاقدين مع الحكومة، وقطاعات البتروكيماويات والصناعة؛ لذا، قد تختلف محددات القروض غير العاملة في البنوك السعودية عن البنوك الإماراتية. وبناءً على هذا الاختلاف، قد تختلف المؤثرات الاقتصادية الكلية على محددات القروض غير العاملة، أي أن الإنفاق الحكومي قد يكون محددا أكثر دقة للقروض غير العاملة.
وللتدليل على اختلاف المؤثرات على القروض غير العاملة من دولة إلى أخرى، فحتى وقت كتابة هذه المقالة، قامت سبعة بنوك سعودية بإعلان نتائجها للأشهر التسعة المنتهية من عام 2010، حيث يلاحظ تراجع أرباحها بنسب كبيرة باستثناء البنك السعودي الهولندي الذي حقق ارتفاعا في الأرباح بنحو 8 في المائة مقارنة بالأشهر التسعة المقابلة من عام 2009، ومصرف الراجحي الذي حقق أقل تراجع في الأرباح بنحو 4 في المائة، بينما لم تعلن بنوك: الرياض، سامبا، الفرنسي، والبلاد نتائجها بعد. وبمقارنة هذه النتائج بتوقعات نمو الاقتصاد السعودي في العام الحالي، التي تراوح بين 3.6 و4 في المائة، فإن النمو الاقتصادي يسير نحو الارتفاع، بينما أرباح البنوك تتراجع لسبب أجمعت عليه البنوك ـ باستثناء بنك الإنماء لحداثته ـ وهو ''تكوين المخصصات لدعم المركز المالي''، وزاد على هذه الجملة بعض البنوك بإلقاء اللوم على تراجع العمولات الخاصة. حقيقة، من المتوقع أن تكون هذه المخصصات جزءا من قروض غير عاملة، أو قد تكون من نتائج تعثر بعض الشركات التي تأثرت نتائجها بتراجع محافظها في الأسواق العالمية ولم تقو أن تستمر في تحمل استمرار تراجع الأسواق لأكثر من عام 2010، أو قد تكون لديون تمت إعادة هيكلتها ولم تنتج من ذلك استمرارية وقدرة على الوفاء، أي أن معامل إبطاء لعب دورا في تأخر تكوين المخصصات حتى الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2010. وأخيرا، من الجيد أن تقوم البنوك بتكوين مخصصات للتحوط ضد الأسوأ ولبدء العام الجديد بقوائم نظيفة وبمخصصات تغطي وتتخطى القروض غير العاملة؛ على أن تقوم البنوك السعودية بمراجعة استراتيجيتها الحالية. فمن المفترض أن تكون الأزمة المالية قد وفرت للبنوك دروسا مجانية تتمثل في تنويع المحفظة بالتركيز على عوائد خدمات التقنية البنكية التي لا يتم تمويلها، بل تكون بمنزلة قيمة مضافة أو استشارة Non Funded Income والتركيز على قطاع التجزئة وقطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، الذي أثبت قدرته على مقاومة الأزمة العالمية لاعتماده على محركات نمو محلية بحتة.