معالجة التضخم تتطلب حلولاً غير تقليدية

06/10/2010 0
محمد العنقري

دخل التضخم مرحلة مقلقة وفق تعبير معالي محافظ مؤسسة النقد، وبحسب الأرقام الأخيرة فهو مستقر عند 6.1 في المائة، بينما مؤشر تكاليف المعيشة يسجل أعلى مستوياته عند 126نقطة. بهذه الأرقام نرى فعلاً أننا نعيش مرحلة ارتفاعات كبيرة في الأسعار حالياً.

وإذا كان للجهات المعنية بالسياسة النقدية والمالية دورها الكبير في معالجة التضخم لكن الإقرار بأنه أصبح مقلقاً يقودنا فعلاً للقول إن هناك خطوات وتدابير لا بد من أنها أصبحت موضوعة على الطاولة لمعالجة هذا الملف؛ حيث أصبح التضخم يُشكِّل الآن أولوية لتلك الجهات؛ فالتضخم يُعدّ مرضاً مزمناً لدينا لا يحله إلا ارتفاع الطاقة الاستيعابية بالاقتصاد من خلال رفع مستوى الإنتاجية المحلية للسلع والخدمات مع بعض الاعتبارات المتعلقة بالسياسة النقدية والمالية.

ويمكن القول إن ملف التضخم أصبح له أولوية بالمرحلة القادمة حتى تتسنى دراسة كل التفاصيل والمؤثرات التي تلعب دوراً رئيسياً فيه وكيفية معالجتها؛ فتصريح المحافظ تضمن أيضاً أن الفائدة لن يُنظر بأي تغيرات فيها؛ ما يعني أن السياسة النقدية ما زالت ترى ضرورة الإبقاء على محفزات الإقراض لتنشيط الاقتصاد، كما أن الإنفاق الحكومي مستمر بالوتيرة نفسها التي خُطّط لها، خصوصا أننا في السنة الأولى من الخطة التنموية التاسعة التي رُصد لها قرابة 1.450 تريليون ريال خلال خمس سنوات، أي بمعدل يقارب 300 مليار سنوياً، وهي أرقام غير مسبوقة، تهدف إلى تعزيز البنى التحتية وتنمية الموارد البشرية لتفعيل وتيسير تدفق رؤوس الأموال للاستثمار محلياً، بمعنى أن هناك المزيد من الأموال ستتدفق للاقتصاد؛ وبالتالي فإن معالجة ملف التضخم إذا كانت تتضمن آلياتها التقليدية امتصاص السيولة بشكل منظم بهدف تقليص حجم الكتلة النقدية فإن هذا الخيار يبدو متناقضاً مع أهداف خطط التنمية؛ وبالتالي لا يمكن اعتباره خياراً أولياً، وحتى رفع احتياطيات البنوك لا يساعدها على الإقراض والتوسع فيه، ولا تحتاج الحكومة حالياً إلى إصدار سندات دَيْن؛ لأنها ليست بحاجة إلى السيولة في وقت تسعى فيه إلى تخفيض حجم الدين باستمرار. أما رفع أسعار الفائدة، وخصوصا على الودائع الطويلة الأجل؛ بهدف إبطاء دوران الكتلة النقدية أيضاً، فلا يمكن أن يكون خياراً؛ لأنه يتناقض مع توجهات تنشيط السوق الائتماني، مع التأكيد الصادر على عدم تغيير أسعار الفائدة حالياً.

وتبقى بعض الخيارات أيضاً، منها تقليص حجم الإنفاق الحكومي؛ فهو أيضاً غير مطروح؛ لأن ما أُعلن من خطط إنفاق حكومي لا يمكن أن يعد من باب تراجع حجم الإنفاق بقدر ما هو تأكيد استمراره بالزخم الحالي نفسه.

ومن هنا تبرز أهمية التوجُّه نحو خيارات أكثر فائدة وجدوى لتبديد القلق الحالي من التضخم وتحقيق هدفين مزدوجين في وقت واحد؛ حيث يتم رفع الطاقة الاستيعابية للاقتصاد؛ وبالتالي تقليل أثر التضخم المستورد، وكذلك مواكبة العرض للطلب الكبير من الإنتاج المحلي؛ ما يخفض التكاليف ويقلل من مستوى الأسعار وكذلك تنشيط الاستثمار؛ ما يرفع حجم الأصول المتداولة والتوسع بها، وذلك عبر السوق المالي.

ويبدو أن المرحلة القادمة سيتم التركيز فيها على رفع حجم التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بنسب أكبر؛ ما يرفع من حجم رأس المال العامل فيها قياساً بالنسب التي تسيطر عليها الشركات الكبيرة سواء بحجم استحواذها على القروض أو كتلة رأس مالها التي استحوذت الشركات المساهمة على 72 % منها؛ حيث يبلغ مجموع رؤوس أموال الشركات عامة 782 مليار ريال، بينما الشركات الصغيرة استحوذت على باقي النسبة، كما أن لأهمية توزيع الأنشطة التجارية وتفعيل دور الائتمان وتشجيع قيام الشركات بالمناطق كافة الدور المهم في زيادة نسبة مساهمة تلك المناطق بالناتج المحلي الإجمالي؛ حيث تستحوذ مناطق الرياض ومكة المكرمة والشرقية على نسبة 73 % من حجم الشركات المرخصة، وهذا يعني زيادة التركيز على تلك المناطق؛ وبالتالي الضغط على الخدمات وارتفاع مستوى التضخم فيها، خصوصا في مجال الإسكان والتأجير، وهذا يعني أن إعادة هيكلة النشاطات والأعمال على مستوى المناطق سيكون لها أثر إيجابي بتخفيض مستوى تأثير القطاع العقاري على مؤشر تكاليف المعيشة والتضخم بشكل عام.

وللاستثمار في مجال الاقتصاد الحقيقي دور آخر سيسهم في جذب رؤوس أموال محلية وجانبية وتنشيط قطاعات مهمة ما زالت تستوعب وتحتاج إلى عشرات المليارات كقطاعات الزراعة والصناعات الغذائية والصحة والتعليم والسياحة؛ ما يعني فتح المجال لاستيعاب أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل ورفع مستوى الناتج المحلي من مختلف الاتجاهات.

ويبقى للسوق المالي دور كبير في امتصاص أحجام كبيرة من السيولة خصوصا أنه عند مستويات جيدة من حيث التقييم المالي، وأصبح في مستوى يسمح بضخ سيولة كبيرة فيه، كما أنه يعاني انخفاض حجم السيولة بشكل حاد قياساً بالمستويات التي كان عندها منذ قرابة العامين؛ ما يعني الحاجة الماسة إلى تنشيطه بسيولة تكون أكثر تنظيماً بعمليات التمويل ونسبها وأهدافها الاستثمارية، خصوصا أن أعداد المؤسسات المالية أصبحت كبيرة؛ ما يسمح بهامش من المنافسة يحافظ على توازن السوق وتقليل احتمالات الفقاعة فيه، التي كانت تحدث بشكل سريع، هذا بخلاف تشجيع سوق الصكوك والسندات؛ لأنه المستودع الأكبر للسيولة التي تبحث عن الاستثمار الآمن الطويل الأجل.

التضخم آفة على أي اقتصاد، وقد يكون في بعض الأحيان عنواناً للنمو الاقتصادي الذي يرفع مستوى الطلب؛ وبالتالي الأسعار؛ ما يحدث أثراً بارتفاعه، ولكن معالجته بقدر ما تأخذ وقتاً طويلاً نسبياً لكنها في هذه المرحلة تحتاج إلى تفعيل أنماط وأساليب تنعكس بالإيجاب على معالجته بشكل جذري، وإن كان يأخذ وقتاً أطول لكن نتائجه ستكون أوسع فائدة على الاقتصاد، وتحقق أهدافاً عديدة، أهمها توفير فرص عمل وارتفاع دخل الفرد من خلال تنشيط العملية الاستثمارية بالاقتصاد الحقيقي والمالي والاستفادة من وفرة السيولة للتحكم مستقبلاً في زيادة إنتاجية المجتمع وتوفير احتياجات الاقتصاد محلياً.