أعلن المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية الأمريكي خروج الولايات المتحدة الأمريكية من أطول ركود ضربها بعد الحرب العالمية الثانية وهذا الركود الأخير هو الرابع خلال ثلاثة عقود لكنه أطولها حيث استمر 18 شهرا لكن الإعلان رغم أهميته لم يلقَ ترحيبا كبيرا لدى الأوساط الاقتصادية وتعامل معه الساسة بحذر شديد إلى الآن.
لكن مفهوم عمل هذا المكتب هو ما يفرض طابع الحذر الذي ساد عند إعلانه المهم فهو مكتب يؤرخ الدورات الاقتصادية ويضع معايير خاصة لتحديد فترات الركود ونهايتها وكذلك دورات الانتعاش لكنه يرجئ الإعلان عن كل مرحلة حتى يأخذ وقتا كافيا لكي يتأكد من مجموعة كبيرة من البيانات يتم رصدها لفترات طويلة وهذا ما يظهره بيانه حيث انتهى الركود بشهر يونيو العام 2009 لكن إعلانه جاء بعد أكثر من سنة، وبنهاية المطاف المكتب لا يضع توقعات اقتصادية فهو يثبت تاريخا يتم توثيقه على نتائج فعلية واقعية ويبتعد عن التنبؤات بخلاف عمل مراكز الأبحاث وغيرها.
لكن هل فعلا أميركا عادت إلى قاطرة النمو ونفضت غبار الأزمة تماما وهو ما يهم الكثيرين بدرجة رئيسية تفوق الاهتمام بما قاله المكتب الوطني رغم أن الأخير شدد على أن النمو الذي واكب انتهاء مراحل الركود لم يكن بالقوة المطلوبة ولم يعد إلى مستويات ما قبل الأزمة، وقال إن أي ركود قريب سيقرأ على أنه جديد وليس امتدادا لما قبله، وهي إشارات واضحة ينبه فيها المكتب أن ما أعلنه هو حالة رصد تاريخي لا تلغي احتمالية وقوع ركود قادم في أي وقت ولكنه رأى أن مدة الانتعاش كانت طويلة وهذا ما جعله يوضح أن لا علاقة بما سيحدث بالمستقبل من أزمات مع ما فرضته أزمة الرهن العقاري على اقتصاد أميركا.
وكان أول من رد على بيان المكتب هو وارن بافيت أشهر المستثمرين العالميين حيث قال: إن باعتقاده الركود لم ينته، بينما يقول نوريبي وهو الحائز على جائزة نوبل بالاقتصاد إن أميركا باحتمال كبير ستتعرض لركود مزدوج ويوافقه العديد من الاقتصاديين الأمريكان.
لكن الأرقام قد توضح ما هو أهم بكثير من كل ذلك عن حالة الاقتصاد الأمريكي، فمازالت البطالة مرتفعة عند مستويات 9.6 بالمائة وهناك قرابة 8ملايين أمريكي خسروا وظائفهم وبعضهم لم يجد عملا منذ سبعة أشهر وهي فترات طويلة مما يعني مزيد من الضغط على الحكومة الأمريكية لتأمين الدعم الكافي لهؤلاء العاطلين عن العمل من خلال الإعانات وكذلك كيفية تنشيط الاقتصاد بوتيرة أسرع لفتح فرص وظيفية لهم، فالمحفزات التي تم ضخها إلى الآن لم تفلح بكبح جماح البطالة وإن كان المكتب الوطني قال في تقريره إن البطالة عادة تستمر لوقت طويل مرتفعة بعد انتهاء الركود بل قد تزداد الأرقام مستقبلا عن الحالية لكن آثار استمرار البطالة كبيرة فهي تحد من إنفاق المستهلكين وترفع من مستوى الادخار وبالتالي تضعف كل هذه التحولات من نمو أكبر اقتصاد عالمي الذي يعتمد على 70 بالمائة من ناتجه من خلال إنفاق المستهلكين الذي خسروا 21 بالمائة من إجمالي ثرواتهم وهذه النسبة ليست خسارة كل شخص بقدر ما هي رقم نسبي فقط فهناك من أفلس أو على حافة الإفلاس وبالتالي فقد الاقتصاد الأمريكي زخما كبيرا من قوة المستهلكين فيه ولن يستطيع إرجاعها بسهولة فمازال النمو الاقتصادي يأتي من خلال قناة الإنفاق الحكومي وليس من نشاط القطاع الخاص الذي يفترض أنه المولد لأغلب مكونات النمو، فالثقة مازالت ضعيفة لدى المستهلك خوفا من فقدان المزيد من الوظائف مستقبلا.
فأوضاع المصارف ما زالت تحت وقع صدمة الأزمة ولا تستطيع العودة للإقراض بسهولة خصوصا أن هناك ملايين فقدوا عملهم، فيصبح إقراضهم يدخل في دائرة المخاطر العالية جدا وهذا ما يتم الابتعاد عنه حاليا لأن أي مصرف الآن لا يتحمل أي مستوى من المخاطر بالوقت الحاضر.
وقد عبر البنك الفيدرالي الأمريكي عن مخاوفه من وضع الاقتصاد الحالي في اجتماعه قبل عدة أيام ووعد بأن يضخ المزيد من الأموال وأن يتدخل عند الضرورة فورا مما ساهم بعودة تراجع الدولار أمام العملات الرئيسية فورا وأحبط محاولات اليابان لتخفيض عملتها تعزيزا لصادراتها خصوصا أنه أبقى الفائدة عند مستويات تقارب الصفر وهذا ما يجعل الدولار بدون أي عائد، ويهمل الاستثمار به دوليا ويبشر بمزيد من التضخم أمريكيا ودوليا وهذا التباين في خطوات الدول الكبرى حيال تنشيط اقتصادها له. انعكاس آخر فهو يزيد من تعميق مشاكل الاقتصاديات الكبرى بشكل قد يعيدها إلى مربع الأزمة بمستوى أكبر من السباق خصوصا في اليابان وأوربا وهما يشكلان أكثر 30 بالمائة من اقتصاد العالم وستتأثر أميركا حكما بذلك ومعها الصين ودول شرق آسيا، أي أن احتماليات تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي باتت كبيرة مجددا ولكن وقعها وأثرها سيكون أعظم، لأن الحكومات في تلك الاقتصاديات استنفذت جل ذخيرتها التي تستطيع التحرك بها عند الأزمات فكيف لدول ترتفع مديونيتها بشكل حاد أن تعاود الاقتراض لإنعاش الاقتصاد لديها بما فيها أميركا التي بلغ دينها العام قرابة 94 بالمائة ومن هنا نجد أن الرئيس أوباما في محفزاته الأخيرة لم يقدم أرقاما مذهلة كالتي كانت عند بداية الأزمة بل أن برامج هذه المحفزات تمتد لسنوات طويلة ويبدو أن جل التركيز الآن لدى حكومته كيف تستطيع أن تفرض أجواء إيجابية قبل الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي ففي حال نجح الجمهوريون فيها فإن المتاعب الاقتصادية ستزداد لأنهم سيعارضون الكثير من برامج الديمقراطيين وهذا ما سيسبب معضلة أمام الكثير من الأعمال التي يتوجب على الديمقراطيين القيام بها لأن للجمهوريين برامجهم التي يرونها أكثر نفعا وهذا ما سيرفع من مستوى الاحتدام بين الطرفين حول الآلية التي يرونها مناسبة لحالة الاقتصاد خصوصا أن لكل طرف دوره في تمثيل مصالح شرائح مهمة ومؤثرة بالمجتمع وينقسمون بين الشركات والمواطنين.
إن هذا المشهد الذي تعيشه أميركا حاليا له انعكاس مستقبلي قد يبدأ بالظهور بعد شهر نوفمبر القادم موعد انتخابات الكونغرس وسيشكل معطفا في تحديد منحنيات حركة الاقتصاد فإذا ما استمر الضعف بالنمو الذي يتراجع بين ربع وآخر منذ بداية العام الحالي فإن ذلك سيزيد من قناعة الجميع بأن ركودا مزدوجا لا محالة سيقع وسيكون لذلك تبعات كبيرة على العالم وتحركات الاستثمار فيه ومدى الثقة بضخها وسيكون للذهب صولات وجولات في مسرح الأحداث السيئة التي يعشقها وهو يقترب بشكل كبير من تحطيم أرقام قياسية عند مستوى 1300دولار للأونصة حاليا وسيكون لانخفاض الدولار مرحلة جديدة نتيجة لضخ الفيدرالي لأموال أكبر بينما لن يكون هناك أي احتمال لزيادة الطلب على الطاقة بل سيبدأ الجميع بتقدير حجم انخفاض الطلب عليها مما يعني تراجعا بأسعار النفط وبالطلب على مشتقاته نتيجة لتراجع الإنتاج الصناعي وازدياد أرقام البطالة سيكون بديهيا مما يعني الضغط أكثر على حكومات تعاني كثيرا من مشاكل مديونياتها كل هذا سيلقي بظلاله على الفترة القادمة إذا ما استمرت مشاكل الاقتصاد العالمي دون حل ويبقى لقمة مجموعة العشرين التي ستعقد في سيئول دورا مهما في مدى قدرة الدول الكبرى تحديدا على تبديد كل تلك المخاوف وفرض أجواء أكثر إيجابية على تعاونها لحل أعقد مشاكل الأزمة العالمية حاليا والابتعاد عن الحمائية التي أصبحت واقعا موجودا من قبل الدول الكبرى قبل غيرها.
العالم سيواجه المرحلة القادمة أهم مراحل معالجة الأزمة وبالتالي سيكون لدى العديد من الدول إجراءاتها وخصوصا دول الاقتصاديات الناشئة التي تريد أن تبقى بعيدة عن تداعيات الأزمة وسيكون طابع الحذر هو السائد عليها وهذا من حقها وما يفترض أن تنتهجه خصوصا أن الدول الكبرى تصدر إشارات غير مطمئنة عن أوضاعها الاقتصادية مما يستدعي المزيد والكثير من القلق والحذر مستقبلا إلى أن تتبدد هذه الصورة القاتمة.