لم تكن الدول الخليجية بمنأى عن الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاديات العالمية، حيث تأثرت جميعها سلبا على مستوى الاقتصاد الكلي، كما يتضح من تباطؤ النمو الذي لم يصل إلى مستويات الأعوام القليلة الماضية، على الرغم من ارتفاع الإنفاق الحكومي والقبول بتحقيق عجوزات في الميزانيات السنوية بهدف تحفيز الطلب الكلي والنمو الاقتصادي. بيد أن تأثر الدول والاقتصاديات الخليجية بالأزمة العالمية كان متفاوتا تبعا لحجم انكشاف الناتج المحلي وإيرادات المالية العامة على الاقتصاد العالمي فيما يتعلق بتأثر الاقتصاد الكلي. والمقصود هنا بحجم الانكشاف هو مدى اعتماد مكونات الناتج المحلي الإجمالي والمالية العامة على التعاملات مع الاقتصاد العالمي، أي اعتماد الصادرات والواردات والاستهلاك، والاستثمار والإنفاق الحكومي والإيرادات والمصروفات العامة على التغيرات التي طرأت في الساحة الاقتصادية العالمية؛ جراء أزمة الرهن العقاري وانتقالها إلى القطاعات الأخرى، وبالذات القطاع المالي. وتعتبر الصادرات والاستثمار من أهم المكونات المرتبطة بالاقتصاد العالمي وقارنة بالاستهلاك من ضمن مكونات الناتج المحلي الإجمالي، بينما تعتبر إيرادات المالية العامة أكثر تأثرا وارتباطا بالاقتصاد العالمي من الإنفاق الحكومي.
أما القطاع الخاص فتأثر أيضا بناءً على درجة الانكشاف ومعامل الارتباط مع الأسواق العالمية بجانب معامل الارتباط غير المباشر من خلال إعادة تقييم وتوزيع المحافظ الاستثمارية المختلطة لرجال الأعمال والمستثمرين المحليين ممن لهم تعاملات كبيرة مع الأسواق والاقتصادات العالمية. ونظرا لتفاوت الخطوات التي تم اتخاذها من قِبل مختلف السلطات الاقتصادية للتعامل مع الأزمة المالية العالمية وتبعاتها، فإن نهج تعامل القطاع الخاص من بنوك وشركات، إضافة إلى الشركات شبه الحكومية التي تعمل بفلسفة القطاع الخاص مع الأزمة المالية العالمية في دول المجلس كان مميزا بمقدار تميز القطاع الخاص الخليجي، ونظرا لصعوبة الظروف الاقتصادية في العام الماضي وتشابك استثمارات محافظ كبار المستثمرين ورجال الأعمال في الخليج مع الاقتصاديات العالمية. وكان أكبر خبر إيجابي بعد عام صعب من القضايا التي تشمل تراجع الأرباح، الدمج، التسييل، والاستحواذ للقطاع الخاص الخليجي من بنوك وشركات خاصة وشبه حكومية خلال الفترة الماضية هو إعلان شركة دبي العالمية شبه الحكومية عن التوصل إلى اتفاق مع نحو 99 في المائة من دائنيها لإعادة هيكلة 24.9 مليار دولار من القروض بتاريخ 10/9/2010 بعد مفاوضات استغرقت أشهرعدة.
وفي مقابلة مع مارجريت برينان ببرنامج ''في الأعمال'' على قناة بلومبيرج التلفزيونية، عقَّب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي على اتفاقية دبي العالمية مع الدائنين بشأن إعادة الهيكلة، موضحا: ''لقد عدنا، بالطبع عدنا''. هذا التصريح من الشيخ محمد بن راشد وصلت أصداؤه إلى الأسواق العالمية في ثوان؛ لاعتباره بمثابة التعميد الرسمي لتجاوز إمارة دبي صعوبات وتبعات الأزمة العالمية المباشرة التي واجهتها. فأزمة دبي، ومنذ بدايتها، تتمحور حول النمو المدفوع بالاقتراض بما فيه من استثمارات محلية تتركز بمعظمها في القطاع العقاري الذي عانى فقاعةً في الأسعار، إضافة إلى استثمارات دولية تتنوع بين مختلف الجهات كشركات التجزئة، والمصارف، والقطاع العقاري، وغيرها من الشركات التي تأثرت بالمخاطر النظامية ومخاطر السوق وتراجع الأداء الكلي.
لذلك، فدبي العالمية، وهي الشركة القابضة التابعة لحكومة دبي والتي تمت إعادة هيكلة ديونها، هي من ضمن ثلاث شركات رئيسة شبه حكومية تابعة للإمارة، وتشمل محفظتها استثمارات محلية تتركز في قطاعات التطوير العقاري والاستثمار في الخدمات التموينية والسياحية والترانزيت، بجانب الجزء العالمي من المحفظة الاستثمارية. وبناءً على ذلك، يلاحظ قيام دبي العالمية، ومنذ وقت مبكر، بتنويع استثماراتها جغرافيا وقطاعيا مع تضمين استثمارات محلية في المحفظة الاستثمارية؛ بهدف موازنة مخاطر الاستثمار في الأسواق العالمية والتحوط ضد تقلبات الأسواق والدورات الاقتصادية المحلية في مختلف الرقع الجغرافية، حيث إن من المفترض نظريا أن تكون محفظة دبي العالمية منوعة بما فيه الكفاية للحفاظ على عوائد تغطي خدمة الديون التي تم اقتراضها للأغراض الاستثمارية، إلا أن الأزمة المالية العالمية غير التقليدية أدت إلى تغيير قواعد الاستثمار التقليدية والتأثير بشكل نظامي على جميع مكونات المحفظة الاستثمارية بالتراجع وبتغيير أنماط معاملات الارتباط بين الاستثمارات لتصبح بينها جميعا ما يبدو وكأنها علاقة ارتباط إيجابية قوية تتجه للانخفاض. كما أدت الأزمة المالية غير التقليدية إلى حاجة دبي العالمية إلى إعادة هيكلة ديونها للتمكن من مقابلة الالتزامات التي تم توظيفها في استثمارات عالمية وفي استثمارات داخلية مهمة وذات بعد استراتيجي ومرتبطة بنموذج دبي للنمو والمنافسة والمبني على كون إمارة دبي مركزا إقليميا للخدمات، تجارة الترانزيت، السياحة، المعارض، ومقر المراكز الإقليمية لكبرى الشركات العالمية والمتعددة الجنسية.
وبطبيعة الحال، فكما كان نموذج دبي محور اهتمام دوائر المال والأعمال في فترات النمو والطفرة، فإن النموذج ذاته كان في عين العاصفة خلال العام الماضي في محاولة من الإعلام الاقتصادي ودوائر المال والأعمال لمراجعة نماذج النمو ونماذج النجاح القائمة. حقيقة، من الواضح أن دبي استفادت من تناول الإعلام الدولي لها بتعمق جراء الأزمة؛ ما أدى إلى التركيز على ميزاتها التنافسية وقدرتها في الحفاظ على جوانب نموذجها التنموي. فبحساب نتائج الأزمة المالية العالمية على دبي، فقد أظهرت النتائج إلى الآن عدم تأثر النموذج التنموي المتمثل بالارتكاز على قطاع الخدمات، التجارة، الترانزيت، السياحة، المعارض، وكونها مركزا إقليميا للشركات التي تستهدف الشرق الأوسط وغرب آسيا. هذه المرتكزات في نموذج النمو لدبي تعتمد على متغيرات داخلية بحتة بدأت معظمها في النمو قبل الأزمة العالمية والأخرى برزت تنافسيتها بعد الأزمة العالمية وبدء المقارنة الجغرافية والتنظيمية للمستثمرين. والمفارقة عند حساب دور دبي قبل وبعد الأزمة العالمية تكمن في تأقلم الأسعار لتنظيم تحركات العرض والطلب، فالشركات التي كانت تجد في دبي مقرا إقليميا مغريا من جميع النواحي، لكنه مرتفع التكلفة حينئذ، بدأت في النظر إلى دبي كوجهة مغرية بعد انخفاض أسعار الإيجارات وتكاليف تأسيس مركز إقليمي، خصوصا أن قدرة المراكز الإقليمية المنافسة كالدوحة والمنامة على توفير خدمات تضاهي دبي هي في غاية الصعوبة في المديين القصير والمتوسط، أخذا في الاعتبار طول الفترة الزمنية اللازمة لتطويع النظم والقوانين والثقافة المحلية ذات العلاقة والمؤثرة على احتمالات النجاح.
وأخيرا، يبدو أن دبي بدأت في العودة، وهي عودة أعتقد أنها ستركز بشكل أكبر على نموذج دبي التنموي المحلي وتعضيده؛ كونه الأكثر مقاومة لدورات التراجع الاقتصادي العالمية، وهو الأكثر قدرة أيضا على توفير العوائد المالية التي قد يتم استخدامها للتوسع العمودي في تطوير القطاعات الاقتصادية المحلية وترجيح ثقل المحفظة الاستثمارية إلى الداخل على حساب الاستثمارات الدولية بما يؤدي إلى رفع القيمة المضافة للاقتصاد المحلي وتمايز نموذج النمو بشكل يصعب نسخه أو حتى مقاربته إقليميا.