كتبت في الأسبوع قبل الماضي موضوعاً عنوانه «الجهوية المالية»، وكنت أقصد جهوية المدن، فبعض المدن العربية تضايق المستثمر القادم من مدينة أخرى، وإن كان يحمل جنسية البلد ذاتها، وهذا أمر لا يمت للاقتصاد بصلة، ولكنه موروث اجتماعي مترسب بين الناس، وبعض الموظفين يحملون جزءاً من هذا الموروث ولا تردعهم الأنظمة، فيضايقون هذا المستثمر القادم لمدينتهم حتى يندم على استثمار أمواله في هذه المدينة.
في المقابل، هناك مدن انفتحت مالياً على المستثمر القادم من مدينة أخرى، فمثلاً مدن مثل مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة، مدن انفتحت على المستثمر القادم من مدن أخرى، فتوسعت تجارتها، ونشط اقتصادها، وأصبحت أسواقها تعج بالحركة المفيدة للطرفين؛ القادم، والقاطن في المدينة، وهذا ينطبق على مدن أخرى مثل الرياض والخبر والدمام.
قد يقول قائل إنك ضربت أمثلة بمدن كبرى لها خصائص مميزة، كأن تكون عاصمة أو مدناً ذات تميز معين، كأن تكون مدناً دينية، أو مدناً ترتكز أعمالها على ثروة في باطن الأرض، كما يحدث في مدن المنطقة الشرقية.
سأقول هذا جميل ومنطقي، ولكن دعونا نأخذ أمثلة من مدن متوسطة، مدن مثل بريدة أو تبوك، فتحت أذرعها للمستثمرين القادمين من مدن أخرى، فلذلك تحرك نشاطها الاقتصادي سواء كان هذا النشاط عقارياً أو بيعاً بالتجزئة أو خدمات.
في المقابل، نجد مدناً مثل عنيزة وحائل انغلقت على قاطنيها، لذلك لم تتوسع، ولم يزدد عدد سكانها بالشكل المطلوب، وأصبح نمو اقتصادها «سلحفاتياً»، ينمو بوتيرة متدنية، بينما المدن التي فتحت أذرعها للمستثمر من مدن أخرى توسعت ونما اقتصادها بوتيرة متسارعة.
ما ينطبق على المدن ينطبق على الدول، فنجد الدول العربية التي انفتحت على المستثمر الأجنبي كسبت وتوسعت ونما اقتصادها، فمثلاً مدينة دبي بعد أن كانت مدينة وادعة ترقد على ضفاف الخليج العربي، أصبحت مدينة ذات شهرة عالمية يقصدها السياح من جميع أنحاء العالم، وما كان ذلك ليتم لولا الانفتاح الاقتصادي، والترحيب بالمستثمر الأجنبي، وسن القوانين التي تحفظ حقوق الدولة وحقوق المستثمر الأجنبي، وفي ظني أن السعودية تسير في الركب ذاته، والسعودية مثل خاص، فهي كانت ترحب بالمستثمر الأجنبي في الصناعات البترولية والبتروكيماوية وبعض الصناعات الأخرى، ولكنها كانت تقفل الاستثمار العقاري في وجه المستثمر الأجنبي.
هذا الأمر قد تغير، وأصبحت السعودية مفتوحة للمستثمر الأجنبي، مما سيخلق لها نشاطاً اقتصادياً يقلل اعتمادها على الثروة النفطية الناضبة أصلاً.
إذن لن تستمر هذه الثروة إلى ما لا نهاية، فكل بئر يكتشف في نهاية المطاف سينضب ويقفل.
في المقابل، نجد أن دولاً عربية أخرى خسرت خسائر عظيمة نتيجة قفل أبوابها في وجه المستثمر الأجنبي بطرق مختلفة، سواء كان القفل بقرار سياسي أو كان لسوء تطبيق نظام المستثمر الأجنبي من قبل التنفيذيين في هذه الدول، مما جعل هذه الدول تخسر عملة صعبة قادمة للاستثمار فيها، وتخسر وظائف يتوقع أن يفتحها مثل هذا الاستثمار.
كان لدى بعض الدول العربية أسباب متباينة في عدم الترحيب بالمستثمر الأجنبي، منها أن بعض الدول العربية لديها الوفرة المالية، فترى نفسها غير محتاجة لمثل هذا المستثمر الأجنبي، والبعض الآخر كان هاجس السيادة يؤرقه، هذا الأمر يبدو لي أنه يجب تغييره، فالمستثمر الأجنبي سيحضر مالاً وسيوطن صناعة أو تقنية، ويبدو لي أنه لا مفر للدول العربية من الترحيب بالمستثمر الأجنبي وتذليل العقبات له وسن القوانين الواضحة التي تبين حقوقه وواجباته، بحيث يكون على بينة من أمره وأين سيضع أمواله.
لا أعلم متى سيتم هذا الأمر، ولكني على يقين أنه قادم عاجلاً أم آجلاً، ولا يمنع من أن تسترشد الدول العربية بالممارسات العالمية في هذا الشأن وتدرس تجارب بعض الدول التي سبقتها بالترحيب بالمستثمر الأجنبي، وتقيم هذه التجربة ومعرفة مميزاتها وعيوبها. وأرجو أن يتم ذلك سريعاً، فلقد تباطأنا في الترحيب بالمستثمر الأجنبي بما فيه الكفاية، حتى جعلناه يبحث عن مواطن أخرى غير مدننا العربية. ودمتم.
نقلا عن الشرق الأوسط