الرئيس أوباما يواجه موقفا لا يحسد عليه مع تعقد الأوضاع الاقتصادية للولايات المتحدة، وتراجع معدلات النمو فضلا عن تصاعد التكهنات باحتمال أن يواجه الاقتصاد الأمريكي تراجعا مزدوجا، الأمر الذي يتطلب منه ان يفعل شيئا لمحاولة تنشيط الاقتصاد والتأكد من أن النمو يسير على نحو يساعد على حل المشكلات المستعصية التي يواجهها سوق العمل الأمريكي منذ بداية الأزمة تقريبا، على الأقل قبل أن يأتي موعد الانتخابات القادمة، وإلا فإن احتمالات أن يفقد الرئيس فرصته في إعادة انتخابه، ومن ثم مقعده في البيت الأبيض، مرة أخرى ستكون مرتفعة جدا.
ليس من المستغرب أن نرى الرئيس أوباما يفكر اليوم في إلغاء الإعفاءات الضريبية التي اقرها الرئيس السابق بوش في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، حيث يعتبر الرئيس أوباما العجز الحالي في الميزانية الأمريكية مرتفعا للغاية، وان هذا العجز سوف يستمر طالما ان هناك إعفاءات ضريبية كبيرة وفقا لنظام الضرائب الحالي في البلاد، وأن الولايات المتحدة لا تستطيع ان تتحمل مثل هذا العجز في الميزانية لفترة طويلة من الزمن، أخذا في الاعتبار الآثار الكامنة التي يمكن ان تترتب على استدامة مثل هذا العجز، بصفة خاصة آثاره على الدين العام المتفاقم على نحو خطير جدا.
حاليا تنوي الإدارة الأمريكية تبني برنامجا ثانيا للتحفيز الاقتصادي بهدف مساعدة الاقتصاد الأمريكي على خلق المزيد من الوظائف ومحاولة تخفيض معدلات البطالة، و يقترح الرئيس أوباما خطة تحفيز بحوالي 180 مليار دولارا من الإعفاءات الضريبية للإنفاق الاستثماري لقطاع الأعمال، والتي سيتم تمويلها من خلال إلغاء الإعفاءات الضريبية على الشركات متعددة الجنسيات وشركات النفط والغاز. الرئيس أوباما يقترح أيضا تخصيص 50 مليار دولارا لمشروعات البنى التحتية التي تساعد على خلق الوظائف، بصفة خاصة في قطاع الإنشاء، حيث سيتم تخصيص المبلغ المقترح لشق طرق وبناء نظم تحكم في النقل الجوي وشق قنوات مائية... الخ، بهدف رفع رصيد البنية التحتية الحالي، وتشجيع الطلب على العمال.
في عامي 2001 و 2003 اقترح الرئيس السابق جورج بوش إعفاءات ضريبية مؤقتة، تنتهي بنهاية 2010، بهدف التخفيف من الآثار التي ترتبت على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتنشيط الاقتصاد من الآثار التي لحقت بقطاع الأعمال في أعقاب تلك الأحداث، بصفة خاصة على أصحاب الدخول المرتفعة. غير أن الرئيس الأمريكي لا ينوي تمديد تلك الإعفاءات، ويعارض أي تسوية أو حل وسط يمكن ان يسمح باستمرار هذه الإعفاءات المؤقتة على أصحاب الدخول المرتفعة.
إلغاء الإعفاءات الضريبة الحالية يعد احد القضايا الخلافية بين الديمقراطيين والجمهوريين، وان كان هناك اتفاقا بينهم على ضرورة مد هذه الإعفاءات على حوالي 98% من الأسر الأمريكية والذين تقل دخولهم عن 250 ألف دولارا سنويا، أو الأفراد الذين تقل دخولهم عن 200 ألف دولارا سنويا والذين تنطبق عليهم تلك الإعفاءات حاليا. الخلاف الأساسي بين الحزبين هو على مد الإعفاءات على أعلى 2% من أصحاب الدخول المرتفعة، وفيما إذا كان سيتم مد هذه الإعفاءات على الأرباح الرأسمالية وتوزيعات الأسهم والتي كانت موضوع الإعفاءات التي أدخلت في 2003.
بالإصرار على إلغاء الإعفاءات الضريبية على ذوي الدخول المرتفعة، فإن الرئيس أوباما، يمد تلك الإعفاءات إلى 98% من الأمريكيين، وفي ذات الوقت يعمل على أن تعود الإيرادات الضريبية إلى مستوياتها قبل 2001، إلى حد كبير، وعندما يتعلق الأمر بتقديم الدعم إلى القطاعات متوسطة الدخل أو تقديم الإعفاءات للأغنياء فإن الحكمة تقتضي اختيار الإجراء الأول.
على الرغم من الدعوات بمد العمل بالإعفاءات على الأقل لمدة سنة أو سنتين للآثار السلبية التي يمكن ان تترتب على الإلغاء، بصفة خاصة على أوضاع سوق العمل، إلا ان الإدارة الأمريكية عازمة على إيقاف العمل بتلك الإعفاءات. الخطوة الأمريكية سلاح ذو حدين، فمن ناحية ستؤدي إلى زيادة الإيرادات الضريبية وتقلل من الضغوط على العجز الكلي في الميزانية العامة، إلا أنها من ناحية أخرى تحمل بعض الضغوط على قطاع الأعمال الخاص وعلى أصحاب الدخول المرتفعة، وتتعدد مبررات إلغاء الإعفاءات الضريبية التي أدخلها الرئيس بوش، وتتمثل أهم تلك المبررات في الآتي:
- أن عملية الإلغاء لن تؤدي إلى خفض في الطلب بأي شكل جوهري باعتبار أنها ستطبق أساسا على ذوي الدخول المرتفعة والذين يدخرون الجانب الأكبر من دخولهم، مما يعني أن المستفيد من الإعفاءات الحالية هم نسبة ضئيلة جدا من الشعب الأمريكي والتي لا تزيد في أفضل التقديرات عن 2%. أما بالنسبة لعموم المستهلكين فإنها لن تطالهم بأي صورة من الصور، حيث ستستمر الإعفاءات الحالية على دخول الأسر التي تقل عن ربع مليون دولار سنويا كما هي بدون تغيير، مما يعني أن إنفاق الجانب الأعظم من الأسر الأمريكية سوف يظل كما هو عند مستوياته الحالية بدون تغيير.
- أن إلغاء الإعفاءات الضريبية وفي ذات الوقت تقديم حوافز للإنفاق الرأسمالي يعد خطوة ذكية لأنها ستدفع قطاع الأعمال الخاص نحو المزيد من الإنفاق الاستثماري، وهو ما يؤدي إلى زيادة مستويات الإنفاق الكلي الخاص في الاقتصاد الأمريكي والتقليل من معدلات البطالة.
- أن عملية إلغاء الإعفاءات الضريبية سوف تولد إيرادات ضخمة، حيث يتوقع أن يترتب على وقف العمل بتلك الإعفاءات تحقيق الحكومة لدخول إضافية تقدر بحوالي من 680 مليار دولارا بحلول عام 2020، وفقا لتوقعات الإدارة الضريبية، ومن ثم فإن استمرار تلك الإعفاءات سوف يعني فقدان الحكومة الأمريكية لأكثر من 2 تريليون دولارا من الإيرادات حتى 2020، دون ان يستفيد منها سوى قطاع صغير جدا من السكان، حيث تذهب هذه الإعفاءات الضريبية لحوالي 0.1% من السكان، وفقا للتقديرات.
- أن تخفيض الضريبة على إنفاق قطاع الأعمال الاستثماري سوف يساعد الاقتصاد بصورة اكبر من مجرد مد الإعفاءات الضريبة للأغنياء. حيث سيكون قطاع الأعمال الذي يرغب في تجديد أو استبدال التسهيلات الإنتاجية لديه، أول المستفيدين من هذه الإعفاءات، وبالتالي ستشجع مثل هذه الإعفاءات القطاع على الإسراع في القيام بذلك للاستفادة من مثل هذه التسهيلات التي تقدمها الحكومة، ومن ثم يزيد الطلب الكلي من هذا الجانب، على الرغم من استمرار المخاوف بسبب الكساد وتراجع مستويات الطلب.
- أن اتخاذ مثل هذا الإجراء في ظل الأزمة، يقدم رسالة واضحة للأسواق مضمونها ان الحكومة الأمريكية عازمة على التعامل بالجدية المناسبة مع تطورات الأوضاع الاقتصادية في ظل الأزمة، وأنها سوف تتخذ أي إجراء مناسب للتعامل مع تلك التطورات، بصفة خاصة الأوضاع المالية الأمريكية، وان الولايات المتحدة تنظر إلى تطورات العجز والدين العام الأمريكي بصورة سلبية، وأنها بالفعل تتخذ الإجراءات المناسبة للحيلولة دون تفاقم الأوضاع على نحو أسوأ، وأنها تسعى إلى مواجهة العجز في الميزانية والسيطرة على الدين العام الذي بلغ مستويات حرجة.
- إن إيقاف العمل بهذه الإجراءات من شأنه أن يزيد الثقة بالاقتصاد الأمريكي وهو ما يخلق مناخا مناسبا للاستثمار وزيادة مستويات الإنفاق، وهو ما يرسل إشارة إلى باقي العالم بأن الولايات المتحدة، خصوصا تلك الدول التي تساهم بصورة أساسية في شراء السندات الأمريكية بان الولايات المتحدة تضمن استدامة الأوضاع المالية الحالية المرتبطة بالإنفاق، وأنها جادة في خططها التي يمكن ان ترتبط بالتحفيز أو التقشف إذا ما تطلب الأمر ذلك.
- ان إقناع الكونجرس بالخطة القادمة بإنفاق 180 مليار دولار على برنامج ثان للتحفيز لا بد وان يكون مصحوبا بتوضيحات حاسمة حول كيفية التمويل في ظل المالية المتردية للاقتصاد الأمريكي، ولن يجد أوباما تبريرات أفضل من إلغاء تلك الإعفاءات لمواجهة التكاليف المحتملة للبرنامج.
من ناحية أخرى فإن أوجه الاعتراض على إلغاء الإعفاءات الضريبية متعددة أيضا وتشمل العوامل الآتية على الأقل:
- أن إلغاء الإعفاءات الضريبية التي ادخلها الرئيس بوش سوف يؤدي إلى المزيد من فقدان الوظائف الأمر الذي يعقد الأوضاع السيئة التي يواجهها سوق العمل حاليا.
- على الرغم من أن هدف الإعفاءات الضريبة على إنفاق قطاع الأعمال الاستثماري هو خلق الوظائف، إلا أن هناك تشكك في مدى جدوى مثل هذه الإعفاءات على زيادة الإنفاق طالما ان الاقتصاد يعاني من حالة الكساد، ومن ثم تسود توقعات تشاؤمية حول مستقبل معدلات النمو في الطلب في ظل ظروف الأزمة، فالزيادة في الإنفاق لا بد وان يقابلها زيادة في الطلب ومن ثم مبيعات قطاع الأعمال لتبرير مثل هذا الإنفاق الاستثماري.
- ان مثل هذه الجهود من قبل الحكومة لرفع مستويات الطلب ومن ثم مستويات الدخول، سوف تحدث انتعاشا مصطنعا في الاقتصاد، ولكي يخرج الاقتصاد من حالة الكساد لا بد من استمرار عزم الطلب الكلي، ورفع قدرة قطاع الأعمال الخاص على خلق الوظائف للتأثير على معدلات البطالة على نحو حقيقي وليس مصطنعا.
- أن أوضاع الأزمة ليست مناسبة على الإطلاق لإلغاء أي إعفاءات ضريبية أو لإجراء أي رفع في معدلات الضرائب، ذلك أن الضرائب تؤثر سلبا على مستويات الدخول، ومن ثم الطلب الكلي على السلع والخدمات التي يقوم بإنتاجها قطاع الأعمال الخاص، وهو ما يعقد مشكلة البطالة.
عندما نعقد مقارنة بين الجوانب الايجابية لإلغاء الإعفاءات الضريبية الحالية والجوانب السلبية لها، نجد أن الجوانب الايجابية تفوق الجوانب السلبية من حيث الوزن، وفي رأيي أن إلغاء الإعفاءات الضريبية بشكلها المقترح سوف يساعد المالية العامة الأمريكية على نحو جيد، دون ان يتسبب في أضرار جوهرية لمستويات الطلب الكلي ومعدلات النمو، ذلك أن إلغاء الإعفاءات الضريبية في ظل الأوضاع المالية المتردية للولايات المتحدة سوف يساعد الاقتصاد الأمريكي بصورة اكبر من الفوائد المتوقعة من عملية مد العمل بتلك الإعفاءات.