من المفترض أن تكون المرحلة الأولى في مشروع إعداد الخارطة الصناعية لدول مجلس التعاون والتي انطلقت بداية هذا العام قد قطعت شوطاً مهماً في تنفيذ المهام المحددة لها، والتي تتلخص في تشخيص الواقع الحالي للصناعات القائمة في كل الدول الأعضاء حسب التصنيف الدولي، ليتم بناء على نتائجها تحديد الصناعات الغائبة، وأسباب غيابها. ولأن البوابة التفاعلية لقاعدة المعلومات الصناعية لدى منظمة الخليج للاستشارات الصناعية تشير إلى أن لديها ملفات أساسية عن أكثر من 10 آلاف مصنع قائم، إضافة إلى أكثر من 10 آلف رخصة لمصنع تحت التأسيس، لذا فإن مهمة المسح الميداني لأحوال هذا العدد الكبير من المنشآت الصناعية على أرض الواقع لا تبدو سهلة أو ميسورة بدون تحديد الهدف النهائي من إعداد الخارطة الصناعية الخليجية. وقد يقول قائل إن الهدف منها هو ببساطة معرفة الصناعات الغائبة التي تناسب ظروف المنطقة فيتم تبنيها وإقامتها. وأقول أن هذا الكلام صحيح جزئياً، ولكن الأهم منه هو معرفة الصناعات التي تخدم تحقيق انطلاقة صناعية لأغراض التصدير بما يفتح لدول مجلس التعاون آفاقاً واسعاً للنمو تنقلها-كما قلت في مقال سابق-من مصاف الدول النامية إلى مصاف الدول المتقدمة.
وفي تقديري إن كثيراً من العشرين ألف منشأة القائمة أو تلك التي قيد الإنشاء بدول المجلس، هي في الحقيقة ورش عمل صناعية لأعمال النجارة والحديد والألمنيوم والزجاج، والطابوق والبلاط والرخام، وقد تنطبق عليها المواصفات التي تجعلها تدخل التصنيف كمشأة صناعية، ولكنها بالتأكيد ليست من ذلك النوع الذي يحقق الهدف النهائي الذي تسعى إليه دول المجلس في إقامة صناعة قابلة للنمو والتطور ومن ثم المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة لدول المجلس. فهذه الورش الصناعية هي في حقيقتها صناعات خدمية من حيث أنها لا توفر السلع فقط لمجتمعاتها، ولكنها في الغالب تقوم على توفير الخدمات المكملة لها من نقل وتركيب للمستهلكين وفق مواصفات وشروط محددة، ومن ثم فهي تخدم المدينة أو المناطق القريبة منها، ويصعب تصور تحولها للتصدير إلى دول أخرى. من هنا فإن من المنطق أن يعمل القائمون على إعداد الخارطة الصناعية على استبعاد كل هذه الورش الصناعية وما على شاكلتها من الإطار العام للمسح الصناعي في مرحلته الأولى.
ومن جهة أخرى هناك العديد من الصناعات التي توصف بالمحلية من حيث أنها موجودة في كل بلد وفي كل مدينة بهدف توفير سلع ضرورية للاستهلاك، وأنها كانت من أوائل الصناعات التي قامت في المنطقة على مبدأ إحلال الواردات، ومن ذلك مصانع الألبان ومشتقاتها، والصناعات الغذائية الخفيفة كالبسكويت والأجبان، والمشروبات الغازية والعصائر، والصابون بأنواعه ومواد التنظيف الأخرى، والبويات. هذه الصناعات قامت غالباً بمقتضى تراخيص صناعية من شركات عالمية لديها براءات اختراع وحقوق الملكية للتقنيات المصنعة وأحياناً الأسم التجاري المعروف عالمياً كالكوكاكولا، والتايد. وبمنطق الأشياء فإن هذه السلع لا تستطيع أن تنافس عالمياً في مواجهة منتجين آخرين موجودين في كل مكان، إلا في أضيق الحدود، وفي ظل اتفاقات تجارية تسهل لها ذلك، كانتقالها من بلد إلى آخر في دول مجلس التعاون الذي يشكل منطقة جمركية واحدة.ولا أحسب أن الصناعات التي تدخل ضمن هذه القائمة-على أهميتها للاستهلاك المحلي- من النوع الذي يخدم في تحقيق نقلة نوعية في الإنتاج الصناعي بما ينقل دول المجلس إلى مصاف الدول المتقدمة.
ومن جهة ثالثة سنجد أن هناك مشروعات صناعية قائمة في المنطقة، ولكنها تعتمد اعتماداً أساسياً على العمالة الوافدة ومن دول شرق آسيا، وبعض هذه الصناعات قد يكون مربحاً من الناحية المالية-خاصة في ظل اتفاقات تجارية مع الدول الكبرى-كصناعات الملابس الجاهزة التي استفادت من فرص التسويق في الولايات المتحدة وأوروبا، مع توظيف للعمالة الرخيصة من دول شرق آسيا- ولكن هذه الصناعات تظل رهينة للظروف التسويقية الميسرة والتي قد تتغير لأي سبب، كما أنها غير قادرة على تحقيق النمو إلا بجلب المزيد من الأيدي العاملة الأجنبية، وهو ما يشكل خطراً على الهوية العربية لدول المجلس في الأجل الطويل، فضلاً عن تكلفتها العالية من منظور الاقتصاد الكلي للبلد.
على ضوء ما تقدم أشير إلى أن تحديد الهدف النهائي من رسم الخارطة الصناعية كان لا بد أن يسبق إقرارها وإنطلاق مرحلتها الأولى لما لذلك من أهمية كبرى؛ ليس فقط في تخفيض تكاليف البحث والدراسة، وإنما أيضاً لضمان الوصول إلى نتائج مهمة تخدم مستقبل التنمية في دول المجلس. وقد يكون مفيداً أن أشير إلى أن الصناعات البتروكيماوية بأنواعها الأولية والوسيطة والنهائية هي من الصناعات التي يجب أن تحظى باهتمام بالغ من القائمين على المسح لاعتبارات كثيرة لعل في مقدمتها أنها صناعات متكاملة، تغذي بعضها البعض فضلاَ عن توافر الميزة التنافسية لها المتمثلة في توافر الغاز محلياً بأسعار رخيصة ودونما حاجة إلى النقل من أماكن بعيدة. والأهم من ذلك أنها صناعات قائمة على التصدير أساساً، وأنها قابلة للتوسع أفقياً ورأسياً إذا ما توافرت لها إمكانيات البحث العلمي المتطور.
ولأن مشروع إعداد الخارطة الصناعية في مراحلها التالية يتضمن دراسة الميزات الصناعية النسبية لكل دولة، والبيئة الصناعية الحالية للاستثمار الصناعي، والقدرة التنافسية لكل دولة بما في ذلك مدى ملاءمة القوانين والتشريعات الحالية، ومدى كيفية الحوافز الصناعية المقدمة حاليا في دول المجلس، واقتراح التدابير الخاصة بترويج الفرص الصناعية المحتملة، مع تحديد الفرص المستقبلية المحتملة بالنسبة إلى الاستثمار الصناعي، لذا فإن الإهتمام بتحديد الهدف النهائي للخارطة هو أمر في غاية الأهمية قبل أن نتوه في التفاصيل التي لا تخدم أهداف وتطلعاتنا دول مجلس التعاون الحقيقية من وراء التوسع في عمليات التصنيع.