تختلف الأزمة التي نتحدث عنها اليوم بعض الشيء عن أزمات العالم الأخرى في الأسباب والعوارض والتفاصيل، ولكنها مع ذلك تعد بشكل عام أزمة شبه متكررة في الدول النامية، وقد حدثت من قبل في عدة أماكن في العالم، أشهرها في المكسيك والأرجنتين. لن أتحدث عن أزمات الدول النامية بشكل منفرد، وسأكتفي بالأزمة الآسيوية باعتبارها نموذجا شبه متكرر في كثير من مناطق العالم، فضلا عن أن أزمة اليوم كانت أشهرها لما أحدثته من أصداء إقليمية وعالمية واسعة. في هذا الجزء من المقال نتناول مسببات الأزمة والمناخ الذي عاشته الدول الآسيوية قبل انطلاقها من تايلاند في تموز (يوليو) 1997.
مثل كل الأزمات التي حدثت في العالم من قبل، بدأت الأمور برواج غير اعتيادي في مجموعة الدول الآسيوية الثماني، وهي تايلاند والفلبين وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا والصين وتايوان وهونج كونج، وقد كان يطلق على هذه الدول في ذلك الوقت النمور الآسيوية، وتمثل مجموعة الدول الخمس الأولى مركز الأزمة، وإن كانت الدول الثلاث الأخرى قد انتقلت إليها العدوى بعد ذلك بشكل واضح نتيجة للعلاقات التجارية الوثيقة التي تربط هذه الدول. كانت الظاهرة المشتركة في الأداء الاقتصادي للدول الآسيوية قبل الأزمة، هي أنها جميعا تحقق معدلات نمو غير طبيعية، فخلال النصف الأول من التسعينيات استطاعت الدول الآسيوية تحقيق معدلات نمو في الناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير من مستوياتها التاريخية في المنطقة، بما يزيد في المتوسط على 9 في المائة سنويا، فيما عدا الفلبين، على الرغم من أن معدل النمو فيها كان أعلى بقليل من 5 في المائة في المتوسط. بل إن بعض هذه الدول كان يحقق معدل نمو حقيقي مكونا من رقمين، وهي ظاهرة نادرة الحدوث في الدول الناشئة. لم يقتصر النمو في الدول الآسيوية على الناتج، وإنما أيضا في معدل نمو التجارة الخارجية التي عكست استراتيجيات التوجه نحو الخارج التي تبنتها هذه الدول.
لتمويل هذا النمو استخدمت جميع الدول الآسيوية مزيجا مختلفا من التوسع النقدي، حيث ازداد عرض النقود بمعدلات نمو كبيرة في هذه الدول، والسماح بعجز كبير في الحساب الجاري بميزان المدفوعات، أو ما يطلق عليه فجوة الاستثمار أو الادخار السالب، فمن الناحية النظرية عندما يزيد الاستثمار على مستويات الادخار المتاح محليا، فإن صافي الواردات لا بد أن يتزايد لتمويل هذه الفجوة، وقد تطلب النمو السريع في الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول نموا كبيرا في معدلات الاستثمار فيها، ومن ثم ازدادت الواردات من السلع الرأسمالية من الخارج، لدرجة أن نمو الواردات فاق نمو الصادرات لسنوات عدة، محدثا عجزا متزايدا في الحساب الجاري لهذه الدول. أما الأسلوب الثالث في تمويل النمو فقد تمثل في تدفقات رؤوس الأموال الهائلة إلى الداخل، وقد لعبت الأخيرة الدور الأساسي في الأزمة، فعندما يحدث عجز في الحساب الجاري في ميزان مدفوعات الدولة فإن حساب رأس المال لا بد أن يحقق فائضا، وهو ما يعني أن صافي العجز في الحساب الجاري يتم تمويله أساسا من خلال تدفقات رؤوس الأموال، ولكن لماذا تعد تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية أحد أسباب المشكلة؟
من الناحية النظرية ينظر إلى تدفقات رؤوس الأموال على أنها أمر جيد للاقتصاد، بصفة خاصة عندما تأخذ تلك التدفقات شكل تدفقات لاستثمارات أجنبية مباشرة، حيث تسهم تلك التدفقات في زيادة مستويات الاستثمار والناتج، ومن ثم معدلات النمو في الدول التي تتدفق إليها. غير أن هناك أشكالا أخرى من تدفقات رؤوس الأموال التي تأتي في صورة استثمارات في المحافظ الاستثمارية، أو المودعات قصيرة الأجل، وغالبا ما يطلق على هذه التدفقات عبارة ''الأموال الساخنة'' Hot money. مثل هذه التدفقات يمكن أن تكون مصدرا كامنا لعدم الاستقرار، وهو ما حدث في الأزمة الآسيوية، ولقد أثبتت الأزمة، بما لا يدع مجالا للشك، أن التمويل بالاعتماد على القروض قصيرة الأجل أمر في غاية الخطورة، ولذلك غالبا ما تقدم الأزمة الآسيوية على أنها أزمة نجمت عن حكومات غير مسؤولة، سمحت بعجز كبير في ميزانياتها العامة، وقامت بطبع كميات كبيرة من النقود لتمويل احتياجاتها المالية، فضلا عن قيامها بتوفير الضمانات للبنوك، مما أدى إلى انتشار المخاطر الأخلاقية والمغالاة في الاستثمار وارتفاع أسعار الأصول، وهو ما أدى إلى الانهيار، وبمراجعة الكتابات الكثيفة والمتاحة عن الأزمة يمكن التوصل إلى خمس مجموعات من العوامل أسهمت بشكل مباشر في تهيئة البيئة العامة لانطلاق لأزمة، وهذه العوامل هي:
العامل الأول، وهو التحرير المالي غير المنضبط، حيث قامت الدول الآسيوية في نهاية الثمانينيات بتبني سياسات مالية حرة، ونظم اقتصادية موجهة أساسا نحو السوق، وقد شمل ذلك تحرير معدلات الفائدة وتخفيض متطلبات الاحتياطيات القانونية من السيولة لدى القطاعات المصرفية. ففي كوريا تم تحرير معدلات الفائدة في الفترة من 1991 إلى 1993، كما كانت معدلات الاحتياطي القانوني في البنوك 30 في المائة في 1990، تم تخفيضها إلى 7 في المائة فقط في 1996. كذلك تم تبني سياسات موجهة أساسا نحو زيادة المنافسة في القطاع المالي، وتحرير دخول المؤسسات المالية إلى سوق المال، كذلك تم تحرير عمليات فتح البنوك وفروعها في إندونيسيا وماليزيا في 1988/1989، وكذلك تم تحرير القيود على عمل البنوك الأجنبية في كوريا وتايلاند في 1991/1993. كانت النتائج المباشرة للتحرير هو تأثيره على وضع السيولة الدولية للنظام المالي، فقد أدى تخفيض متطلبات الاحتياطي لدى البنوك أن سمح للصناعة المصرفية أن تحتفظ بمستويات أقل من السيولة، وعلى الرغم من أن هذا الوضع قد يكون إيجابيا، لأنه يرفع من كفاءة المؤسسات المالية، إلا أنه يؤدي إلى تفاقم مخاطر مشكلة السيولة ويزيد من احتمالات الإفلاس لتلك المؤسسات.
من ناحية أخرى قامت الدول الآسيوية بمنح حرية الوصول إلى أسواق رأس المال في الخارج، ففي عام 1993 قامت الحكومة الكورية بإزالة القيود على حرية الوصول إلى أسواق النقد الأجنبي في الخارج، كذلك قامت تايلاند بتحرير حساب رأس المال في ميزان مدفوعاتها، وهو ما شجع البنوك التايلاندية على الاقتراض من أسواق النقد الأجنبي. أدى هذا العامل إلى فتح الباب للعامل الثاني من عوامل بيئة الأزمة.
العامل الثاني وهو الزيادة غير المسبوقة في الالتزامات الخارجية قصيرة الأجل (أي بالنقد الأجنبي مثل الدولار أو الين) للمؤسسات المالية، والتي ترتبت عليها مشكلة سيولة في النقد الأجنبي أدت إلى انفجار الأزمة. ويقصد بالسيولة هنا الفرق بين الأصول والالتزامات الخارجية قصيرة الأجل للمؤسسات المالية. فقد كشفت نتائج الأزمة الآسيوية عن حدوث انفجار في الالتزامات الخارجية قصيرة الأجل للمؤسسات المالية الآسيوية التي قامت بالاقتراض من أسواق النقد الأجنبي في الخارج وإعادة تدوير هذه القروض في الداخل بالعملات المحلية، انطلاقا من الأرباح الكبيرة التي كانت تحققها نتيجة اتساع الهامش بين معدلي الفائدة المحلي والأجنبي، وقد ثبت أن ذلك السلوك كان مرتفع المخاطرة، نتيجة لارتفاع درجة تعرض تلك المؤسسات للقروض بالعملات الأجنبية. فعندما تقترض البنوك بالعملات الأجنبية وتقوم بإعادة الإقراض بالعملات المحلية فإن انخفاض قيمة العملة المحلية سيكون بمثابة عبء على هذه البنوك، حيث تتحمل مخاطر الصرف الأجنبي بالكامل، ولكن عندما تقوم هذه البنوك بالإقراض بالعملات الأجنبية فإن مخاطر الصرف الأجنبي يتم تحويلها أساسا إلى المقترضين. كان النمط السائد في تدوير الأموال هو اقتراض المؤسسات المالية بالعملات الأجنبية وإعادة إقراضها بالعملات المحلية، وبما أن هذه المؤسسات لا تحقق إيرادات بالعملات الأجنبية فإن انخفاض قيمة العملات المحلية يقلل من أرباحها ويقلل من طاقتها على خدمة ديونها الخارجية.
لقد تزايدت عمليات الإقراض التي قامت بها البنوك الدولية لآسيا من أقل من 150 مليار دولارا في نهاية 1990 إلى نحو 390 مليار دولار في منتصف 1997، وقد كان معظم هذا الإقراض موجها نحو الدول الآسيوية الخمس، على الرغم من أن الفلبين تسلمت حصة أقل نسبيا. باختصار ترتب على عمليات الإقراض المكثف للدول الآسيوية زيادة كبيرة في الالتزامات بالعملات الأجنبية، ولكن لماذا اختارت المؤسسات المالية الآسيوية التوسع في التزاماتها بالعملات الأجنبية بدلا من العملات المحلية؟
هناك عدة تفسيرات تقدم لذلك، منها أن التحيز نحو الاقتراض الخارجي كان واضحا في المناخ التنظيمي للمؤسسات المالية في آسيا، على سبيل المثال كانت البنوك في الفلبين تخضع لضريبة بنسبة 10 في المائة على الدخول من القروض من العملات الأجنبية، بينما كانت نسبة الضريبة على الدخول الأخرى لتلك المؤسسات 35 في المائة، كذلك كانت البنوك تلتزم بأن تحتفظ بنسبة احتياطي 13 في المائة على المودعات بالبيزو، بينما لم تكن تلتزم بالاحتفاظ باحتياطيات على المودعات بالعملات الأجنبية. من ناحية أخرى بدأ الكثير من الدول الآسيوية في تحويل جانب من أراضيها إلى مراكز أوفشور، على سبيل المثال في بانكوك، حيث كانت البنوك الدولية تتمتع بإعفاءات ضريبية خاصة. كما كانت هذه الظاهرة موجودة في أماكن أخرى، على سبيل المثال في ماليزيا التي أنشأت مركز لابوان المالي، والفلبين التي أنشأت سوق أوفشور للعملات الأوروبية، وسنغافورة وهونج كونج اللتين تطورت أدوارهما بعد ذلك كمراكز مالية دولية. منحت كل هذه المراكز مزايا ضريبية متعددة، وكان معظم التمويل الأجنبي للبلاد يأتي من خلال أسواق الأوفشور هذه. أكثر من ذلك كانت معدلات الصرف الاسمية للعملات الآسيوية مثبتة بالنسبة بالدولار، مع السماح بنسبة تغير ضئيلة في تايلاند وماليزيا وكوريا والفلبين، بينما كانت تتغير بنسبة يمكن تقديرها في إندونيسيا. وعندما يمكن التنبؤ بتغيرات معدل الصرف، فإن المخاطر بالنسبة للمستثمرين الأجانب تقل، وهو ما يشجع على تدفقات رؤوس الأموال نحو الداخل.
أكثر من ذلك لقد أدى النمو المرتكز على التوجه نحو الخارج في الاقتصاديات الآسيوية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية مدفوعة بالاستقرار الاقتصادي الكلي الذي تمتعت به هذه الدول، فضلا عن انخفاض معدلات التضخم بها مقارنة بالأوضاع في الدول النامية الأخرى، كذلك كانت الماليات العامة لهذه الدول منضبطة إلى حد كبير، بصفة خاصة في تايلاند، وهو من أكثر الأمور التي تثير مخاوف المستثمرين الأجانب، الذين سيستثمرون بعملاتهم الأجنبية في هذه الدول.
كانت معظم القروض التي تم منحها للدول الآسيوية قروضا قصيرة الأجل، ففي عام 1990 كانت نسبة الديون التي يزيد تاريخ استحقاقها عن عام، 38 في المائة في 1990، انخفضت هذه النسبة إلى أقل من 30 في المائة في منتصف 1997، وعندما نشبت الأزمة، كانت نسبة القروض الأجنبية قصيرة الأجل إلى إجمالي الالتزامات الخارجية لهذه الدول هي 68 في المائة في كوريا، و66 في المائة في تايلاند، و59 في المائة في إندونيسيا والفلبين، و56 في المائة في ماليزيا. المشكلة الأساسية أن هذه الزيادة في التدفقات من القروض قصيرة الأجل لم تكن تتماشى مع النمو في الأصول السائلة لهذه الدول، وهو ما يعني أن السيولة أصبحت مشكلة كامنة في القطاعات المالية في هذه الدول.
على الرغم من أن هذه التدفقات قد تبدو على أنها نعمة، إلا أنها جلبت تحديات ضخمة لهذه الدول، والتي تمثلت في كيفية استيعاب هذه التدفقات من النقد الأجنبي في اقتصاديات هذه الدول، وفي كيفية توجيهها نحو المجالات المنتجة، وفي كفاءة تدويرها في النظم المالية المحلية، والتي لم تكن متقدمة على النحو المناسب. كذلك شكلت هذه التدفقات من النقد الأجنبي تحديات للسياسة الاقتصادية الكلية وسياسة معدل الصرف الأجنبي. مثل هذا التحديات لا تنشأ عادة في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وغيرها من تدفقات رؤوس الأموال طويلة الأجل.
العامل الثالث وهو التغيرات الاقتصادية في الخارج، حيث انخفضت معدلات العائد المحقق على المدخرات في عديد من الدول الصناعية، والتي شهدت تصاعدا في مستويات الادخار فيها، ومن ثم مستويات سيولة كبيرة في أنظمتها المالية، في ظل معدلات منخفضة للفائدة، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسواق الأسهم في هذه الدول، بصفة خاصة في الولايات المتحدة حتى عام 1995، في الوقت الذي شهدت فيه هذه الدول الصناعية تراجعا في توزيعات العوائد على الأسهم بالنسبة لأسعارها، وعندما انخفضت هوامش معدلات الفائدة على القروض الآسيوية بصورة كبيرة، بما يعكس تراجع مستويات المخاطرة في مثل هذه الأصول، تزايد تفضيل المستثمرين الأجانب لهذه الأصول، خصوصا في ظل تقييم المخاطرة المصاحبة لهذه الأصول عند مستويات تقل عن مستوياتها الحقيقية. كذلك حدث تحول في تفضيلات المستثمرين في الدول الصناعية وتزايد اهتمامهم نحو تنويع محافظهم الاستثمارية خارج اقتصادياتهم، خصوصا مع تزايد الثقة بأداء هذه الاقتصادات الناشئة، وقد تزايد هذا التحول في التفضيلات نحو الأصول الآسيوية، بصفة خاصة بعد الأزمة المكسيكية في 1994/1995.
غير أنه بدءا من عام 1996، شهدت معدلات الصرف بين الدولار الأمريكي والين الياباني (عملة الشريك التجاري الرئيس لهذه الدول) تغيرات ترتب عليها تراجع واضح في تنافسية هذه الدول بالنسبة لليابان، كما بدأت معدلات التضخم في الدول الآسيوية تصبح أعلى من المعدلات السائدة لدى شركائها في التجارة، وهو ما أدى إلى تآكل جانب من تنافسية هذه الدول، وأخذت أسواق التصدير لهذه الدول في الانكماش نسبيا، مما ترتب عليه تراجع في إيرادات الصادرات لهذه الدول بصفة خاصة بالدولار الأمريكي. من ناحية أخرى تراجع النشاط الاقتصادي في الدول المستوردة من هذه الدول خصوصا في أوروبا، وتراجعت أسعار الإلكترونيات في العالم، وهو ما انعكس بشكل سلبي على كوريا وماليزيا وسنغافورة، ومن ثم مستويات النمو في الدول الآسيوية بما في ذلك الصين والهند.
العامل الرابع وهو ضعف القطاع المالي، فضلا عن جوانب الضعف الهيكلية الأخرى في الاقتصاديات الآسيوية، بصفة خاصة فيما يتعلق بنوعية الاستثمارات التي جعلت تلك الاقتصاديات عرضة لهذه الهزات. كانت أوجه ضعف القطاع المالي واضحة للغاية في تايلاند وإندونيسيا وكوريا، حيث كانت قواعد تنظيم القطاع المالي غير مناسبة، فضلا عن ضعف الخبرة بين المؤسسات المالية في عملية تسعير وإدارة المخاطر، وضعف الشفافية والإدارة السليمة، فضلا عن ضعف الرقابة الداخلية، مثل هذه الجوانب ساعدت على التوسع في عمليات الإقراض غير الرشيد، وانتشار الممارسات الفاسدة، على سبيل المثال كانت هناك قروض تمنح للشركات بتوجيهات سياسية، وعندما اقترب توقيت الأزمة، كانت الأوضاع في الدول الصناعية تتحسن، حيث ارتفعت معدلات النمو وزادت بالتالي معدلات الفائدة في الخارج، وتصاعدت ثقة المستثمرين مرة أخرى بأسواق الدول الصناعية، الأمر الذي أحدث انعكاسا في تفضيلات المستثمرين الدوليين مرة أخرى نحو الخارج، مما رفع من درجة ضعف النظام المالي الآسيوي. أكثر من ذلك أدى تراجع الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، وبدء تقييد السياسات الاقتصادية، إلى انخفاض أسعار الأصول، بصفة خاصة أسعار العقارات وأسعار الأسهم، وأخيرا انخفاض قيمة العملات، وهو ما جعل المدينين الذين ليس لديهم خطط تحوط لتغطية التزاماتهم بالنقد الأجنبي في ورطة كبيرة، ولقد ترتب على ذلك ارتفاع معدلات التوقف عن خدمة الديون، الأمر الذي هدد سيولة المؤسسات المالية وسلامتها.
العامل الخامس وهو ضعف عملية إدارة الاقتصاد، حيث كان من الواضح أن السياسات الاقتصادية التوسعية السائدة في هذه الدول ترفع من درجة سخونة هذه الاقتصاديات، الأمر الذي أثار شكوك المستثمرين حول إمكانية استمرار تبني سياسات معدلات الصرف المثبتة بالدولار، والتي تعطي ضمانا للمستثمرين بأن أسعار العملات الأجنبية لن تزيد لكي تلتهم فروق معدلات الفائدة بين الداخل والخارج. من ناحية أخرى، كانت هناك إشارات إلى تكون فقاعة أصول في هذه الدول، خصوصا في أسواق العقارات، حيث يتم تدوير جانب من القروض بالعملات الأجنبية في القطاع، بصفة خاصة في تايلاند وماليزيا وسنغافورة. كما تكونت أيضا فقاعة أسعار أسهم في بورصات هذه الدول. أكثر من ذلك أخذت معدلات التضخم في الارتفاع، بصفة أساسية في ماليزيا وتايلاند، وبصورة أقل في إندونيسيا وكوريا والفلبين، ومن ثم أخذت التنافسية العالمية لاقتصاديات هذه الدول في التراجع ومعها تزايدت مستويات العجز في الموازين التجارية لها.
هيأت هذه العوامل المسرح لانطلاق الأزمة، وفي تموز (يوليو) 1997 بدأت هجمات المضاربة على البات التايلاندي، مما أدى إلى حدوث انخفاض حاد في قيمة البات، وانتقلت عدوى الأزمة بسرعة البرق إلى الدول الآسيوية الأخرى.
في الحلقة القادمة ـ بإذن الله تعالى ـ نتناول نتائج الأزمة وكيف تعاملت الدول الآسيوية مع إفرازاتها.