في مقال لي سينشر غدا في جريدة الوطن البحرينية بعنوان "قراءة في بعض المؤشرات الاقتصادية الكلية للصين"، لفت نظري المستوى الخيالي من الادخار المحلي الذي تحققه الصين، والذي يتوقع أن يصل إلى 55% من الناتج المحلي الإجمالي في 2010. وذكرت في المقال أنه لا توجد دولة في العالم تحقق هذه المستويات المرتفعة جدا من الادخار المحلي. ذلك ان كل دولار من الناتج يتم توليده في الصين يتم ادخار 55 سنتا منه، وأننا إذا عقدنا مقارنة بين الوضع في الصين والولايات المتحدة، سوف نجد أن معدل الادخار المحلي المتوقع في الولايات المتحدة عن نفس السنة، لا يتجاوز 14.2% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أنه في مقابل كل دولار يتم توليده من الناتج المحلي الإجمالي، يتم ادخار 14 سنتا منه فقط.
وقد كان بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي قد أشار سابقا إلى ان ارتفاع مستويات الادخار في بعض بقاع العالم مثل الصين والدول المصدرة للنفط، يسهم في العجز الكبير في الحساب الجاري الأمريكي وكذلك في خلل نظام المدفوعات الدولية (نتيجة عدم استخدام جانب من هذه المدخرات في الاستيراد من، أو الاستثمار في الخارج- (ملاحظة للقارئ هذه الدول تستثمر معظم فوائضها في الخارج)).
كذلك أدت الأزمة المالية العالمية إلى لفت النظر بصورة أكبر مما سبق حول أهمية مدخرات الصين. فمعدل الادخار المحلي في الصين أعلى من ذلك الخاص بالدول المعروفة بأنها تحقق معدلات مرتفعة للادخار، مثل دول شرق آسيا، ودول الأوبك، أكثر من ذلك فإنه في عام 2007 بلغ معدل الادخار المحلي في الصين أكثر من ضعفي متوسط معدل الادخار في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، ولم يعكس ذلك نقصا في فرص استثمار تلك المدخرات، بل على العكس كان متوسط نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من 2000-2008 أكثر من ضعف مستوياته في الولايات المتحدة في نفس الفترة. الملفت للنظر، أنه على عكس ما قد يعتقد البعض، ان الجانب الأكبر من هذه المدخرات هي مدخرات خاصة.
أثارت هذه الملاحظة انتباهي وفي محاولة للبحث عن تفسير لهذا المستوى الخرافي من الادخار وقعت يدي على أحد البحوث التي نشرت في مؤتمر عقد الأسبوع الماضي في ايطاليا، عن دور الصين في الاقتصاد العالمي، والذي يحاول أن يفسر أسباب ارتفاع مستويات الادخار في الصين مقارنة بحزمة من دول العالم بعنوان Why is China’s Saving Rate So High? A Comparative Study of Cross-Country Panel Data للباحثين Juann Hung and Rong Qian، حيث تحاول الدراسة ان تفسر إلى أي حد يمكن إرجاع معدل الادخار المرتفع في الصين إلى خصائصها المؤسساتية أو الديموجرافية أو الاقتصادية، في مقابل أثر تبني الصين لسياسات معدل صرف متحفظة لعملتها اليوان، وغيرها من المتغيرات الاقتصادية الكلية مثل التضخم ومعدل الفائدة الحقيقي والميزانية الحكومية التي دائما ما يعتقد أنها المسئولة عن مستويات معدلات الادخار بشكل عام.
ووفقا لنتائج نموذج الدراسة توصل الباحثان اللذان قاما بإعداد هذه الدراسة المثيرة للاهتمام إلى أن انخفاض معدل الإعالة (عدد الأفراد الذين لا يعملون إلى إجمالي السكان في سن العمل) في الصين مقارنة بمعظم الدول في العالم، هو أهم العوامل المسئولة عن ارتفاع معدلات الادخار في الصين، بمعنى آخر ان انخفاض عدد الأفراد في الأسرة ومن ثم انخفاض عبئ الإعالة على السكان العاملين في الصين يفسر الجانب الأكبر من ارتفاع معدلات الادخار الصيني. الدراسة تشير أيضا إلى أهمية عوامل أخرى أهمها ارتفاع معدل النمو في الناتج في الصين مقارنة بباقي دول العالم، وكنت قد أشرت في مقالي إلى ان الصين بالفعل تحقق معدلات مبهرة للنمو في الناتج مقارنة بباقي دول العالم، وأن الصين بدأت العد العكسي لليوم الذي ستصبح فيه أكبر اقتصاديات العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
كذلك توصلت الدراسة إلى ان ضعف شبكة الضمان الاجتماعي في الصين، والتي ترفع من المخاطر التي قد يواجهها المتقاعد في الصين، تدفع بالأفراد نحو تراكم مستويات مستهدفة من المدخرات تعين الافراد على مواجهة المخاطر المالية المصاحبة لضعف شبكة الضمان الاجتماعي التي تتبناها الحكومة الصينية، وذلك عندما يحالون الى التقاعد، أي أنه في ظل ضعف نظم الضمان الاجتماعي الحالية، يقوم الأفراد بخلق النظم الخاصة بهم التي تقدم لهم التأمين المناسب عند التقاعد من خلال الادخار المرتفع.
فضلا عن ذلك توضح نتائج الدراسة ان انخفاض معدل التحضر (نسبة السكان المقيمين في المناطق الحضرية إلى إجمالي السكان، حيث ترتفع تكاليف المعيشة وتقل الفوائض التي يحققها الأفراد من دخولهم نظرا لضغوط التكاليف المرتفعة للمعيشة في المدن)، يعد من العوامل المسئولة عن ارتفاع معدلات الادخار.
وعلى العكس مما هو شائع بأن سياسات الصين المتعلقة بمعدلات صرف عملتها اليوان، (حيث تحرص الصين على تقييم عملتها بأقل من قيمتها السوقية، من خلال ربط اليوان بالدولار ربطا جامدا)، فإن سياسة معدل الصرف المتحفظة لليوان كان لها تأثيرا متواضعا على ارتفاع معدلات الادخار في الصين.
هذه هي العوامل الرئيسية المسئولة عن ارتفاع معدلات الادخار إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في الصين وفقا للدراسة. باختصار هناك 3 سياسات للحكومة الصينية أسهمت في تكوين هذه المعدلات المبهرة للادخار المحلي في الصين، الأولى هي سياسة الطفل الواحد لكل أسرة، والتي تسهم في تخفيض عبئ الإعالة على السكان في سن العمل بصورة كبيرة، والثانية هي عدم التوسع في شبكة الضمان الاجتماعي، فضلا عن سياسات التوسع الحضري المتحفظة بعدم التوسع الحضري بصورة تفرغ المناطق الريفية من سكانها وأنشطتها التقليدية.
شكرا لك يا دكتور على تثقيفنا اكثر واكثر ...
شكرا دكتور على هذا المقال
جزاك الله خير دكتور محمد
قد يكون السبب الثالث مجديا في دولنا ....
في الصين الشيوعية .. الحكومة غنيةُ جداً (إحتياطياتها المالية بلغتْ 2.5 تريليون دولار) بينما ... الشعبُ حالته أقل من المتوسط!!!.. وهذا تماماً عكس جارتها اليابان حيث معدل الإدخار يصلُ إلى أكثر من 30% حيث أن الحكومة تحمل ديناً ثقيلاً وكبيراً جداً بينما .. الشعب حالته أكثر من المتوسط العالي وفيهم الكثيرٌ من الأغنياء !!!!