طلب مني بعض القراء ان اقدم مقالا عن مفهوم التضخم وأنواعه ومسبباته.. الخ، ولهؤلاء أعيد نشر مقال سابق عن التضخم.
يعرف الاقتصاديون التضخم بأنه "الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار"، ومن هذا التعريف المقتضب نجد أن هناك شرطان للحكم على وجود التضخم، الأول هو أن يكون الارتفاع في الأسعار مستمرا، فارتفاع الأسعار خلال شهر أو شهرين مثلا لا يعد تضخما، وإنما يطلق عليه لفظ "ارتفاع أسعار"، وليس تضخما.وبشكل عام يمكن القول أن استمرار الارتفاع في الأسعار لأكثر من سنتين متتاليتين يعد دليلا على حدوث التضخم.
أما الشرط الثاني فهو أن يكون هذا الارتفاع في "المستوى العام للأسعار" (أي أسعار معظم السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون المقيمون في المناطق الحضرية) مستمرا. وليس شرطا أن ترتفع كافة الأسعار أثناء التضخم، فمن الممكن أن تنخفض بعض الأسعار، ومع ذلك نقول بأن هناك تضخما. فما هو المستوى العام للأسعار؟.عندما يتم حساب المستوى العام للأسعار فانه يكون على شكل رقم قياسي Index، لسله من السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون المقيمون في الحضر. وتقسم هذه السلع والخدمات إلى مجموعات، على سبيل المثال مجموعة الأغذية والمشروبات، ومجموعة الملابس والأحذية، ومجموعة الخدمات الصحية... الخ.
ويحسب المستوى العام للأسعار في سنة الأساس (أي سنة تكوين الرقم القياسي) من خلال ضرب كمية السلع التي يشتريها المستهلكون من السلع في كل مجموعة في أسعارها في سنة الأساس. ثم يحسب الرقم القياسي من خلال قسمة الإنفاق على السلة في السنة الحالية على الإنفاق على السلة بأسعار سنة الأساس وضرب الناتج في 100. وبما أن السنة الحالية هي نفس السنة في سنة الأساس فان الرقم القياسي للأسعار يكون 100 في سنة الأساس.
وبمرور الوقت تتغير أسعار السلع والخدمات ارتفاعا وانخفاضا، الأمر الذي يترتب عليه تغير مستويات الإنفاق للمستهلكين على السلة عن سنة الأساس. فنقوم بحساب الإنفاق على السلة مرة بضرب كميات السلع والخدمات التي يتم شراءها حاليا في الأسعار الحالية لتلك السلع والخدمات، ومرة أخرى بالضرب في أسعار سنة الأساس، ثم نقوم بإعادة حساب الرقم القياسي للأسعار بنفس الطريقة السابقة. ومن ثم فان ارتفاع الرقم القياسي للأسعار يعني وجود ارتفاع في الأسعار، اذا استمر فإننا نطلق عليه تضخما.
مشكلة الرقم القياسي للأسعار أنه يحتوي على مجموعات من السلع تختلف نسبة إنفاق الأفراد عليها من شخص لآخر، على سبيل المثال فان مجموعة خدمات السكن يختلف الإنفاق عليها بشكل جوهري بين مؤجري المساكن ومالكي المساكن التي يقيمون بها. ففي أوقات التضخم ترتفع أسعار المساكن ومن ثم إيجاراتها بشكل واضح، فيشعر مؤجري المساكن بعبئ هذا المصدر من مصادر التضخم، بينما لا يشعر مالكي المساكن بهذا المصدر من مصادر ارتفاع الأسعار. وكمثال آخر فانه في أوقات التضخم ترتفع رسوم التعليم في المدارس الخاصة، فيشعر آباء التلاميذ في تلك المدارس بهذا المصدر، بينما لا يشعر به آباء التلاميذ في المدارس العامة، أو الأفراد الذين ليس لديهم أولادا في المدارس.
ولذلك يميل الاقتصاديون إلى حساب ما يسمى بـ "التضخم الجوهري Core inflation"، أي الارتفاع في أسعار السلع الأكثر استقرارا وذلك من خلال استبعاد مجموعات السلع ذات التقلب الشديد في الاسعار مثل اسعار الأغذية واسعار الطاقة مثل أسعار البنزين.. الخ. كبديل أفضل للتعبير عن حالة التضخم.
ولكن ما الذي يسبب التضخم، ويدفع بالمستوى العام للأسعار نحو هذا الارتفاع المستمر؟. بشكل عام هناك تفسيران للتضخم، الأول هو التضخم الناجم عن ضغوط الطلب على السلع والخدمات، ويطلق على هذا النوع من التضخم "تضخم جذب الطلب". ويحدث ذلك عندما يميل الطلب الكلي (طلب المستهلكين على السلع والخدمات الاستهلاكية، وطلب قطاع الأعمال على السلع والخدمات الرأسمالية، ومشتريات الحكومة من السلع والخدمات، وصافي صادرات الدولة أي الفرق بين الصادرات والواردات) إلى الارتفاع، بصورة أكبر من قدرة الإنتاج على مواجهة هذه الزيادات في الطلب، فتحدث ضغوط على الموارد المستخدمة في إنتاج السلع والخدمات (مثل العمال والمواد الخام.. )، وترتفع أسعار عناصر الإنتاج مما يؤدي إلى زيادة التكاليف ومن ثم الأسعار. وفي هذا النوع من التضخم "يطارد إنفاق كبير للمستهلكين عرضا محدودا من السلع والخدمات".
أما التفسير الثاني للتضخم فهو التضخم الناجم عن صدمات العرض، ويطلق على هذا التضخم "التضخم المدفوع بالتكاليف"، ويحدث ذلك عندما تحدث صدمة لجهاز عرض السلع والخدمات نتيجة ارتفاع أجور العمال مثلا أو ارتفاع أسعار النفط .. الخ، فتميل التكاليف نحو الارتفاع ومن ثم الأسعار، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للأجور، أو أسعار النفط، فيطالب العمال بأجور أعلى، أو مصدري النفط بأسعار أعلى، مما يؤدي إلى استمرار ارتفاع التكاليف، فارتفاع الأسعار، وهكذا في حلقة حلزونية للارتفاع من الأجور إلى التكاليف إلى الأسعار، أو من سعر النفط إلى التكاليف إلى الأسعار، وهكذا.
وتلعب صدمات العرض الدور الأساسي حاليا في التضخم. فالتضخم الذي نعاني منه حاليا سببه ارتفاع أسعار النفط من جانب، وارتفاع أسعار الغذاء بسبب الصدمات التي يتعرض لها إنتاج الغذاء، ومنها النفط، من جانب آخر، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف إنتاج السلع والخدمات ومن ثم الأسعار. ويمكن القول بأننا في الدول المصدرة للنفط نصدر التضخم إلى العالم، في صورة الأسعار المرتفعة للنفط، ونستورد التضخم من العالم، في صورة ارتفاع أسعار السلع التي نستوردها من الخارج.
وتشير المدرسة النقودية إلى أن التضخم في أي وقت، وفي أي مكان هو ظاهرة نقودية، أي ظاهرة تنجم عن الزيادة المستمرة في عرض النقود. وأن ارتفاع عرض النقود بنسبة ما يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار بنفس النسبة. فعندما تقوم الحكومة بإصدار المزيد من النقود يدرك الأفراد أن القوة الشرائية لتلك النقود ستميل إلى الانخفاض، فيعمد الأفراد إلى التخلص من تلك النقود، وهو ما يؤدي إلى تغذية جانب الطلب.
من ناحية أخرى فان زيادة عرض النقود يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة (ثمن النقود)، وهو ما يساعد على تشجيع الطلب. ولذلك يطلق على الزيادة في عرض النقود في المجتمع على أنها ضريبة التضخم، أي أنها بمثابة ضريبة تحصلها الحكومة من الأفراد في المجتمع في صورة انخفاض القوة الشرائية للنقود التي يحتفظون بها بفعل زيادة الكميات المصدرة منها.
ويحدث التضخم الجامح Hyper-inflation، وهو أخطر أنواع التضخم، عندما يحدث إفراط شديد في عرض النقود، بصفة خاصة في أوقات الحروب، او أوقات عدم الاستقرار السياسي، فتحدث زيادات هائلة في الأسعار، قد تكون بشكل يومي. على سبيل المثال التضخم الذي ساد بعض دول أوروبا في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو التضخم الذي ساد في بعض دول أمريكا اللاتينية في فترة الثمانينيات من القرن الماضي. وعلى ذلك تلعب السياسة النقدية، او البنك المركزي دورا محوريا في ارتفاع المستوى العام للأسعار.
حيث أن ارتفاع مستويات الطلب الكلي أو صدمات العرض بحد ذاتها لن تؤدي إلى التضخم ما لم يكن ذلك مصحوبا بسياسات نقدية لملائمة الأوضاع Accommodating، والتي تلجأ إليها الحكومة لمعالجة النتائج الناجمة عن دفع الطلب او صدمات العرض، بدلا من الانتظار حتى تلعب قوى السوق دورها في الحد من آثار تلك النتائج.
أما أصحاب مدرسة الطبيعة Naturalists، فيقسمون التضخم إلى نوعين تضخم ناتج من الطبيعة Natural، والذي يعد دالة مباشرة في الأرض كعنصر نادر. حيث يؤدي ارتفاع ريع الأرض (بما في ذلك أسعار الموارد الطبيعية كالنفط)، إلى ارتفاع الأجور لمواجهة ارتفاع الريع مما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف ومن ثم الأسعار. وهكذا فان التضخم الراجع إلى الطبيعة يعود إلى ارتفاع ريع الأرض (أو الريع بشكل عام)، ومن ثم ارتفاع أسعار الغذاء، وارتفاع أسعار الموارد الطبيعية مثل النفط وغيره من المعادن. والتضخم الذي لا يرجع إلى الطبيعة، والناتج عن تدخل البنك المركزي من خلال ضخ المزيد من عرض النقود، وتعديل معدلات الفائدة.
ومن هذا المنطلق فان التضخم الذي نعيشه اليوم هو تضخم يعود إلى الطبيعة حيث ترتفع أسعار الغذاء والنفط، وتضخم لا يعود إلى الطبيعة بسبب إفراط البنوك المركزية في عرض النقود. ومن ثم فان علاج التضخم حاليا يتركز أساسا في البحث عن موارد طبيعية متجددة بحيث يثبت عنصر الريع ومن ثم تتم السيطرة على التضخم الذي يعود إلى الطبيعة.
وبالنسبة لتوقعات الأفراد حول التضخم، هناك نوعان من التضخم: التضخم المتوقع، وأثر هذا التضخم على الأفراد محدود، لان الأفراد عندما يتوقعون معدلا معينا للتضخم فإنهم يأخذون هذا المعدل في الحسبان في خطط إنفاقهم أو في أية عقود يبرمونها، مثل عقود العمل، عقود التأجير.. الخ. ومن ثم فانه يسهل على الأفراد مواجهة هذا النوع من التضخم لأنهم يأخذونه في الاعتبار. أما النوع الثاني فهو التضخم غير المتوقع، أي الذي لم يأخذه الأفراد في الحسبان عند إبرام عقودهم المختلفة، وهو أخطر أنواع التضخم لصعوبة مواجهة آثاره.
على سبيل المثال اذا كنت تعيش علي إيجار عقار تملكه، وكان معدل التضخم المتوقع هو 5%، فانك ستحرص على أن تبرم عقود الإيجار الخاصة بالعقار الذي تملكه بإضافة نسبة 5% إلى معدل الإيجار السائد حاليا، وذلك لمواجهة أثر التضخم المتوقع. فإذا حدث وكان التضخم الفعلي بعد ذلك هو 15%، فان ذلك يعني أن معدل التضخم غير المتوقع يساوي 10%، وأنت لم تأخذه في الاعتبار عند إبرام عقود تأجير عقارك. فتكون النتيجة انك تخسر 10% من القوة الشرائية لإيجار عقارك (دخلك)، ولا تستطيع مواجهة ذلك لأنك أبرمت عقد التأجير، وعليك الانتظار حتى ينتهي العقد لرفع الإيجار مرة أخرى.
ولكن هل يتضرر عموم الأفراد من التضخم؟ الإجابة هي لا، لأن هناك فئات تضار من التضخم، وفئات تستفيد من التضخم، ولذلك غالبا ما نقول أن التضخم يحدث آثارا توزيعية، أي يعيد توزيع الدخل من فئات معينة لصالح فئات أخرى. فعندما يرتفع معدل التضخم تنخفض القوة الشرائية للدخل (قدرة الدخل الذي يحصل عليه الفرد على شراء السلع والخدمات المختلفة)، أو ما يطلق عليه الدخل الحقيقي، ولكن ذلك لا يعني انخفاض الدخل الحقيقي للاقتصاد ككل، فما ندفعه في صورة أسعار مرتفعة، يذهب إلى طرف آخر في الاقتصاد، هو المنتجين او بائعي السلع ومقدمي الخدمات.
وبشكل عام ينقسم الأفراد في المجتمع إلى مجموعتين، مجموعة لا تستطيع أن تعدل مستويات دخولها، بسبب ثبات مصادر دخلها، مثل الموظفين وأصحاب العقارات والمتقاعدين الذين يعيشون على المعاشات التي تدفعها الدولة.. الخ.
وهذه المجموعة من الأفراد هي أكثر المجموعات تضررا من التضخم، لأن القوة الشرائية لدخولها الثابتة تميل إلى الانخفاض مع ارتفاع الأسعار، في الوقت الذي لا تستطيع أن ترفع من دخولها الثابتة لمواجهة آثار التضخم. أما أصحاب الدخول المتغيرة، مثل التجار وأصحاب المهن الحرة.. الخ، فيستطيعون بسهولة تعديل مستويات دخولهم لمواجهة آثار التضخم. كذلك فان أصحاب المدخرات في البنوك يتعرضون للخسارة في أوقات التضخم، حيث تميل القوة الشرائية لمدخراتهم في البنوك إلى الانخفاض بمرور الوقت بفعل التضخم.
كذلك يتضرر المقرضون للأموال من التضخم غير المتوقع (حيث يفترض أنهم يأخذون في الاعتبار التضخم المتوقع في حساب معدلات الفائدة على قروضهم. ويطلق على زيادة معدل الفائدة نتيجة التضخم المتوقع "علاوة التضخم")، بينما يستفيد المقترضون للأموال في أوقات التضخم، حيث سيقترضون أموالا ذات قوة شرائية مرتفعة، ويعيدون سدادها بقوة شرائية منخفضة.
بقي أن نشير إلى أنه في الأوقات التي يرتفع فيها الطلب تميل فيها معظم الأسعار نحو الارتفاع ويحدث التضخم، فماذا عن الأوقات التي يقل فيها الطلب على السلع والخدمات، هل تنخفض فيها الأسعار، الإجابة هي بشكل عام لا، لأن الأسعار والأجور في مجملها تتسم بعدم القابلية للانخفاض Sticky ، أي أنها ترتفع في أوقات زيادة الطلب، بينما تثبت ولا تنخفض في أوقات انخفاض الطلب.
بارك الله بك مقال رائع
مدرسه في العلم والاخلاق بارك الله فيك