استكمالا للمقال السابق فيما يتعلق بالنمو الآسيوي ومحدداته ومستقبله باعتبار آسيا هي قاطرة التعافي والنمو العالميين وبعد أن تناولنا في المقال السابق الأوضاع في اليابان، نتناول اليوم الأوضاع في الصين ذلك المارد الذي استيقظ فانها لمن مفارقات القدر أن تواجه الصين معضلة مختلفة تمامآ فهي تواجه ضرورة كبح معدلات النمو ولكن بشكل مدروس لأنها الآن قاطرة تعافي الاقتصاد العالمي في اللحظة الراهنة وكذلك الخوف من أن تؤدي أية سياسات أو قرارات غير مدروسة الى ضعف مبالغ فيه للنمو وهو أمر خطير بالنسبة للصين والعالم لأن الصين الآن هي قاطرة النمو العالمي الحالي ومن المتوقع ان سارت الأمور على ما يرام أن تكون الاقتصاد الصيني الأول في العالم متجاوزآ نظيره الأمريكي في عام 2027 الا أن الصين تواجه حاليآ مشاكل النمو التضخمي وارتفاع معدلات الاقراض وهو ما يؤدي اذا لم يواجه بالسياسات والبرامج الملائمة الى فقاعة كبيرة في الأسعار وخاصة أسعار العقارات والسلع الرأسمالية (وقد سجل ارتفاع كبير في أسعار العقارات الصينية طوال السنوات الثلاث الماضية) مما قد يؤدي الى انفجارها مع الوقت وبالتالي ندخل في دوامة جديدة من الأزمة العالمية ولكن منبعها هذه المرة الصين وليس أمريكا ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يتحمله الاقتصاد العالمي وخاصة الأمريكي الذي بالكاد يخرج من الأزمة الأولى وبثمن باهظ جدآ بلغ تريليونات الدولارات التي تثقل كاهل الحكومة الأمريكية، كما أن الصين لازالت حتى اللحظة المشتري الأكبر لسندات الخزانة الأمريكية (تمتلك قرابة 2 تريليون دولار من تلك السندات) أي أنها الى جانب دافع الضرائب الأمريكي الممولين الأكبرين للخزانة الأمريكية وبالتالي فان أية أزمة جديدة شديدة ستعاني منها الصين قد تدفعها الى بيع كمية كبيرة من سندات الدين الأمريكي التي في حوزتها مما سيؤدي الى انهيار حتمي للدولار الأمريكي وكذلك حدوث انخفاض هائل في الطلب الصيني والآسيوي من قبل الدول المرتبطة بالصين على السلع والخدمات العالمية وبالتالي ادخال الاقتصاد الأمريكي والعالمي في دوامة لا الركود وانما الكساد.
ولكن مثل هذا السيناريو الكارثي مستبعد الحدوث للأسباب الآتية:
أولآ: تتوافر للحكومة الصينية الفرصة لاستخلاص العبر والوسائل في مكافحة الأزمة المالية الحالية ونتائجها من خلال تجارب الدول الغربية؛ وهو الأمر البالغ الاهمية الذي يمكن الصين من اتخاذ السياسات الملائمة في الوقت المناسب أي ان الأمر أشبه بالتحضر لامتحان محتمل من خلال حضور ومشاهدة دروس شبه مجانية.
فالحكومة الصينية منذ بداية العام عمدت الى رفع معدلات الفوائد المصرفية على القروض العقارية لتقارب مستوى ال7% ارتفاعآ من 5.6%، كما أنها فرضت على البنوك زيادة نسبة الاحتياطات الالزامية بنسبة 1% منذ بداية العام وذلك للتقليل من قدرة المصارف على الاقراض وبالتالي رفع كلفة الاقراض وزيادة قدرتها على مواجهة أية تعثرات في السداد، وكذلك تحديد سقف معين للقروض العقارية في هيكلية القروض التي يقدمها كل مصرف كما قام بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) برفع أسعار الفوائد المصرفية وسندات الدين الحكومي كمساهم في امتصاص السيولة الزائدة في السوق.
كما أن ارتفاع معدلات الاقراض العقاري في الصين لا يمكن النظر اليها بشكل يغفل أن جزءآ هامآ من تلك القروض يذهب الى تمويل عمليات شراء وبناء في الدول المجاورة كسنغافورةواندونيسيا وتايوان حيث يوجد اتفاق رسمي بين الحكومتين الصينية والتايوانية ينص على أن من حق البنوك الصينية أن تبيع قروضها العقارية في تايوان (وهي بالطبع محاولة هامة من الصينيين نحو تدعيم وجودهم في تايوان في اطار السعي الى اعادة تايوان الى أحضان الوطن الصيني الأم).
ثانيآ: 20% فقط من كلفة البناء الجديد (التجاري والسكني) ممول بالإقراض المصرفي. وتشكل القروض الممنوحة لمشتري المنازل ومطوري العقارات نسبة 17 في المائة فقط من إجمالي البنوك الصينية، مقارنة بنسبة 56 في المائة للبنوك الأمريكية. والفقاعة المدفوعة بالادخار أقل خطرا بكثير من تلك المدفوعة بالائتمان. وحين تبدأ السوق في الانهيار يضطر المضاربون المثقلون بالديون إلى البيع مما يخفض الأسعار ويؤدي بالتالي إلى تخلف المزيد من المقترضين عن السداد.
بالاضافة الى أن ربع المشترين الصينيين يدفعون نقدا والقرض العقاري العادي لا يغطي إلا نحو نصف قيمة العقار ويجب على ساكني العقار وضع وديعة بحد أدنى 20 في المائة، والمستثمرين وديعة بنسبة 40 في المائة مقارنة بمعدلات وصلت الى3% فقط كان يدفعها المتقدم الأمريكي بطلب القرض العقاري قبل اندلاع أزمة الرهن العقاري الأمريكية.
كما تقوم الحكومة الصينية بوضع قيود على عملية المتاجرة العقارية حيث تفرض رسومآ عقارية تصل الى 5% عند محاولة اعادة بيع العقار قبل مرور 5 سنوات على شراؤه كما لا يمكن الا للهيئات الاجنبية التي لها فروع في الصين ان تشتري الشقق لاستخدامها كمكاتب او مساكن. اما هذه الهيئات الاجنبية التي تريد الاستثمار في شراء العقارات فيجب عليها ان تفتح في الصين فروعا عقارية ويكون مجمل استثمارات فروعها اكثر من 10 ملايين دولار ولا تقل اموالها المسجلة عن %50 من جملة استثماراتها، كما ان عمليات تجارة العقارات لا تتم الا بعد مصادقة بعض الإدارات الصينية، وهدف الحكومة الصينية في هذا واضح جدآ وهو التقليل من أثر الأموال الأجنبية الساخنة في التأثير على السوق العقارية الصينية.
ولازال سعر المتر العقاري في الصين أقل بكثير من مثيله في كثير من الدول الآسيوية المحيطة والتي لا تسجل معدلات نمو مثل الصين واقتصاداتها فيما عدا اليابان أقل بكثير من حجم الاقتصاد الصيني وتأتي في المرتبة الأولى هونغ كونغ بسعر 15.5 ألف دولار تقريبا للمتر المربع الواحد ثم اليابان بـ13 ألف دولار وسنغافورة بـ 11.3 ألف دولار ثم الهند بـ 9.5 ألف دولار التي تأتي بعدها تايوان بسعر 3.9 ألف دولار للمتر المربع الواحد، ثم الصين بـ 2.8 ألف دولار وكمبوديا بـ2.6 ألف دولار وتايلاند والفيلبين ثم ماليزيا وإندونيسيا في المرتبة الأخيرة بسعر لا يتعدى الـ 1.2 ألف دولار.
وقد أدت سياسات التشديد المالية والادارية هذه كما يرصد بنك جولدمان ساكس الى انخفاض مبيعات العقارات في بكين في النصف الأول من شهر مايو 2010 بنسبة 80% وهي وان كانت نسبة كبيرة في البداية الا أن لها دلالاتها فهي تعكس خروج الأموال الساخنة ذات المضاربات العنيفة السريعة واستيعاب الأسواق لتلك السياسات والقرارات مما سيؤدي مع مرور الوقت الى عودة الارتفاع مرة أخرى للمبيعات دونما ارتفاعات سعرية مبالغ فيها وهو المطلوب حاليا.
ثالثآ: لا زال حجم الناتج الاجمالي الفردي (يتحصل من قسمة الناتج القومي الاجمالي على عدد السكان) لازال حجم هذا الناتج لايتعدى نسبة ال10% من نظيره الياباني والأمريكي، أي أن الصين لازال أمامها المجال واسع نحو رفع مستويات المعيشة والاستثمار في البنى التحتية واستيراد وتوطين التكنولوجيا كالاستثمار في الطاقات المتجددة وبناء السدود (تمتلك الصين أكبر مجموعة سدود في العالم) ومحطات الكهرباء وشبكات السكك الحديدية (تمتلك الصين أسرع قطار في العالم) ومد وتعبيد الطرق في ظل حقيقة أن 30% من القرى الصينية لا تمتلك طرق مرصوفة ومعبدة.
رابعآ: تحقق الصين كما هو معلوم معدلات نمو قوية وسريعة هي ضمن الأعلى والأسرع في العالم تدور حول ال10% هذا بالاضافة الى استمرار الارتفاع القوي في معدل نمو الصادرات بحوالي 48.5% في شهر مايو2010 مقارنة بنفس الفترة في العام الماضي وسجلت الصين فائضا تجاريا بلغ 19.5 مليار دولار مقارنة مع فائض قدره 1.7 مليار دولار في ابريل نيسان، وهو ما يعزز وضع الصين كأكبر دولة مصدرة في العالم متقدمة على ألمانيا، وتعني معدلات النمو القوية والسريعة أن أسعار الأصول عند الانخفاض لا تحتاج الى الانخفاض كثيرآ لاستعادة قيمتها العادلة وأنه يمكن استيعاب معدلات الانتاج الفائضة عبر زيادة الطلب.
خامسآ: اجمالي الدين الحكومي الصيني لا يزيد عن 50% من الناتج المحلي الاجمالي وهو معدل أقل بكثير من نظيره الغربي وهو ما يعطي الحكومة الصينية وبالطبع في اطار محددات معينة أريحية أكبر في التعامل مع أية أزمة طارئة.
سادسآ: ما تزال في يد الصين ورقة بالغة الأهمية لم تستخدمها بشكل كامل بعد (حتى مع السماح ببعض المرونة والارتفاع مؤخرآ) وهي ورقة رفع سعر اليوان المربوط بالدولار (في ظل رفض أمريكي لاعتبارات المنافسة بين الصادرات الأمريكية والصينية التي ترى الادارة الأمريكية أنها تستفيد من اليوان الضعيف) وذلك بتعويمه ليعبر بشكل حقيقي عن المكانة الاقتصادية القوية للصين وبالتالي فانه من المتوقع عند تعويم اليوان ولو بشكل جزئي أن يرتفع سعر صرف اليوان أمام سلة من العملات العالمية مما يزيد من القدرة الشرائية للمستهلك الصيني وزيادة على صعيد القيمة للأسهم والشركات الصينية ويؤدي كذلك الى المساهمة الجدية في مواجهة أية ضغوط تضخمية تواجه الاقتصاد الصيني، ولازالت القيادة الصينية تقاوم الضغوط الغربية وعلى رأسها الأمريكية في هذا الصدد حتى تستطيع سياسيآ أن تثبت أن الصين لا تخضع للضغوط والتهديدات وبالتالي تأكيد مكانتها الدولية المتصاعدة خاصة مع انخفاض حدة الضغوط الأوروبية مؤخرآ بعد انخفاض اليورو أمام سلة من العملات العالمية ومنها اليوان الصيني، واقتصاديآ حتى تستطيع استخدامها في الوقت المناسب.
سابعآ: وكما أنه لازال في يد الصين ورقة رفع سعر الصرف فانه لازال أمامها رقعة جغرافية واسعة جدآ تضم مئات الملايين من البشر وهي المنطقة الغربية من الصين التي لازالت تعاني من نقص كبير في الخدمات الأساسية وضعف البنية التحتية وتركز السكان في الريف وانخفاض المستويات التعليمية والصحية والمهنية لسكانها فالطفرة التي تنعم بها الصين حتى اليوم تأتي من مناطقها وسواحلها الشرقية وفقآ لتخطيط الأب الروحي للصين الحديثة الراحل دينج شياو بنج، مما يفرض على الحكومة الصينية تحديآ وميزة (وميزات ان شئنا الدقة) حيث تستطيع الحكومة الصينية الشروع في برامج تنموية قوية وما تستدعيه من انفاق حكومي قوي دون خوف حقيقي من تكون فقاعات (طالما كانت الأمور مدروسة بشكل عقلاني) وبالتالي بدء انتقال واعادة توزيع للثروات والأموال الباحثة عن المستقبل وفرصه الاستثمارية الى الغرب الصيني بما يشبه مرحلة التوسع الأمريكي في القرن التاسع عشر نحو الغرب فيما عرف بحمى الذهب وذلك بعد طول تمركز شديد في الشرق منذ اكتشاف أمريكا في عام 1492 م، وبالعودة إلى الصين فان ذلك سوف يخفف من الضغط على أسعار الأصول وحمى المضاربة في الشرق الصيني ويؤدي الى زيادة ايجابية كمآ وكيفآ في حجم الاقتصاد الصيني ودعم معدلات النمو بشكل ايجابي.
ثامنآ: لا يمتلك المواطنون الصينيون شبكة أمان وضمان اجتماعي مثل التأمين الصحي واعانات البطالة مثل تلك التي يتمتع بها نظرائهم اليابانيون والأوروبيون والأمريكيون وغيرهم من الدول المتقدمة مما يدفع المواطنين الصينيون الى ادخار مبالغ أكبر من الأموال والتخفيض بالتالي من حجم انفاقهم واستهلاكهم، فبالتالي فان قيام الحكومة الصينية من خلال استغلالها واستثمارها لجزء من حجم احتياطياتها الأكبر في العالم بدعم وتطوير شبكة الضمان الاجتماعي سيمكن المواطنين الصينيين من زيادة الانفاق والاستهلاك الداخلي مما يقلل من الاعتماد الصيني على التصدير للخارج وتصبح الصين أقل تأثرآ بالأوضاع العالمية السلبية، والمؤكد أيضآ أن زيادة حجم الاستهلاك المحلي الى جانب معدلات و أحجام التصدير القوية سيزيدمن قوة معدلات النمو الاقتصادي ودعمها ويمتص حجم الطاقة الانتاجية الفائضة بل ستكون هناك حاجة الى بناء وتطوير المزيد من المشاريع في مختلف المجالات مما يؤدي الى مزيد من التوظيف واستغلال أية طاقات معطلة أو فائضة .
في النهاية فانه يجب النظر الى الأزمة الحالية والتي اصطلح على وصفها بالأزمة اليونانية الى أنها أزمة شبه عابرة ويتم التعامل معها بكل جدية حاليآ وهو ما أدى حاليآ الى تماسك الأسواق المالية فيما عدا بعض الانخفاضات الحادة هنا وهناك وهذا أمر طبيعي حتى تتضح معالم خطط التقشف ومكافحة العجز واطمئنان الأسواق العالمية الى مدى قوة ارادة الحكومات في مواجهة الضغوط الشعبية فيما يتعلق بخطط التقشف ومعالجة الديون، كما لا يجب المبالغة واثارة الخوف من أية أزمة جديدة قادمة من آسيا فالوضع هناك من الواضح أنه تحت السيطرة (بالمعنى الايجابي للجملة) ويتم التعامل معه بحزم واضح وأن مجالات النمو الواسعة وخاصة في الصين تشكل صمام أمان للعالم، والدروس التي تستفاد من الأزمة الحالية (اليونانية) والسابقة (الأمريكية) تعطي قدرة لقادة آسيا وغيرهم من دول العالم الأدوات والوسائل والتجارب الكافية لمنع حدوث أية أزمات جديدة أو اضعاف تأثيرها بشكل كبير ان وقعت بحيث لا تكون تأثيراتها مشابهة للأزمات الحالية.