في تقرير تصدره مرتين سنويا أكدت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخرآ إن الاقتصاد العالمي يتعافى بوتيرة أسرع من المتوقع من الركود وتقوده في ذلك اسيا لكنه ما زال يواجه خطرا جراء الديون الثقيلة في الدول المتقدمة واحتمال حدوث نمو تضخمي في بلدان مثل الصين ورفعت كذلك من توقعاتها للنمو العالمي الى 4.6 بالمائة في عام 2010والى 4.5 بالمائة في 2011. وكانت قد توقعت في نوفمبر تشرين الثاني الماضي نموا بمعدل 3.4 بالمائة هذا العام وبمعدل 3.7 بالمائة في 2011 بعد تباطؤ بمعدل 0.9 بالمائة في 2009.
وأبدت المنظمة تفاؤلا أكبر ازاء أسواق الوظائف عالميا قائلة ان البطالة في دولها الاعضاء البالغ عددها 34 دولة قد تكون بلغت ذروتها عند 8.5 بالمائة وهو معدل أقل بكثير من التوقعات السابقة البالغة عشرة بالمائة.
وفاقت التوقعات الجديدة متوسط معدل النمو السنوي في السنوات العشر التي سبقت الازمة المالية التي بدأت شرارتها في الولايات المتحدة في 2007 وهو متوسط يبلغ 3.7 بالمائة للسنة في الفترة ما بين 1997 الى 2006 بحسب أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لكن المنظمة قالت ان الانتعاش غير متوازن وعرضه للخطر.
وقالت المنظمة ان الاقتصاديات المتقدمة التي كانت الاكثر تضررا جراء الركود في 2009 تحظى بدعم بفضل انتعاش التجارة الدولية مدعومة أساسا بالطلب على الصادرات من الاقتصادات الصاعدة في اسيا.
ورفعت المنظمة توقعها لنمو الاقتصاد الامريكي هذا العام والذي يليه الى 3.2 بالمائة لكل منهما ارتفاعا من 2.5 بالمائة و2.8 بالمائة في توقعاتها في نوفمبر الماضي.
وتوقعت المنظمة نمو اقتصاد اليابان بمعدل ثلاثة بالمئة في 2010 وبمعدل اثنين بالمائة في 2011 ارتفاعا من 1.8 بالمائة واثنين بالمائة في توقعات سابقة كما توقعت تأخر منطقة اليورو خلف ذلك بمعدل نمو يبلغ 1.2 بالمائة هذه السنة و1.8 بالمائة في التي تليها وهما معدلان أكبر ولو قليلا من التوقعات السابقة في نوفمبر بمعدل 0.9 بالمائة و1.7 بالمائة.
والتحدي الاكبر الذي يواجه الاقتصادات المتقدمة الان هو خفض ديون ما بعد فترة الركود واحتواء عدم الاستقرار في السوق المالية الذي امتد مؤخرا من أوروبا.
وسلطت المنظمة الضوء على تهديد مختلف جدا لاقتصاديات الأسواق الناشئة مثل الصين والهند قائلة "لا يمكن استبعاد سيناريو الفقاعة ثم الانهيار مما يتطلب تشديدا أشد صرامة للسياسة النقدية في بعض البلدان خارج المنظمة بما في ذلك الصين والهند لمقاومة الضغوط التضخمية وتقليل خطر فقاعات أسعار الاصول.
وتوقعت المنظمة نمو اقتصاد الصين بمعدل 11.1 بالمائة هذا العام و9.7 بالمائة في 2011 قائلة ان ثمة خطرا من أن تفشل اجراءات تهدئة أسواق العقارات وكبح أسعار الاراضي في ابعاد خطر النمو التضخمي. وفي نوفمبر توقعت المنظمة نمو الاقتصاد الصيني بمعدل 10.2 بالمائة في 2010 وبمعدل 9.3 بالمائة في 2011.
وتوقع التقرير نمو التجارة العالمية بواقع 10.6 بالمائة في 2010 وبواقع 8.4 بالمائة في 2011 بعد تراجع بنسبة 11 بالمئة في 2009 تركز معظمه في الاشهر التي أعقبت انهيار البنك الامريكي العملاق ليمان براذرز.
وقالت المنظمة وأغلب دولها الاعضاء من الاقتصادات المتقدمة "النمو القوي في اقتصادات السوق الناشئة يساهم بشكل كبير." وتابعت "أثر النمو الممتد من البلدان الاسيوية من خارج المنظمة قد يكون أقوى من المتوقع خاصة في الولايات المتحدة واليابان. ومن هذه الناحية فان المناخ العام واعد نسبيا."
وقبل تسليط الضوء على هذا التقرير ومحاولة فهم أبعاده فانه يجب بداية التعريف بهوية هذه المنظمة؛ ان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هي منظمة دولية مكونة من مجموعه من البلدان المتقدمة التي تقبل مبادئ الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق الحر. نشأت في سنة 1948 عن منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي والمنظمة تمنح فرصة تمكن الحكومات من مقارنة التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبحث عن اجابات للمشاكل المشترك، تحديد الممارسات الجيدة وتنسيق السياسات المحلية والدولية.
المنظمة تشكل منتدى للضغط الذي يمكن أن يكون حافزا قويا لتحسين السياسات وتنفيذها عن طريق سن قوانين غير الملزمه التي يمكن ان تؤدي أحيانا إلى المعاهدات الملزمه. وتقوم المنظمة عبر مقر الأمانة العامة في باريس بجمع البيانات ورصد الاتجاهات والتحليلات والتنبؤات الاقتصادية بالاضافة الى بحوث التغيرات الاجتماعية أو التطورات في أنماط التجارة والبيئة والزراعة والتكنولوجيا والضرائب والمجالات الأخرى، وتضم المنظمة 31 دولة عضو وتعد تركيا الدولة الاسلامية الوحيدة في المنظمة.
الغالب على التقرير النبرة التفاؤلية وهو المتوقع أيضآ على الرغم من الدعوات التشاؤمية المبالغ فيها أحيانآ والمرافقة للأزمة اليونانية الحالية وانهيارات الأسواق المالية ولكننا نريد التركيز على الجانب الآسيوي من التقرير بالتركيز على اليابان والصين أكبر اقتصادين في آسيا وثاني وثالث أكبر اقتصادين في العالم (من المتوقع تبادل هذا الترتيب خلال الأشهر القليلة المقبلة) حيث آفاق النمو وقاطرة تعافي الاقتصاد العالمي من الركود الحالي وحيث المخاوف من اندلاع أزمة جديدة قوية تنطلق من كلتا الدولتين تدخلنا في شتاء قطبي ونحن في أشد الحاجة الى صيف يلهب أسعار الأسهم المتردية في مختلف أنحاء العالم.
ونتناول اليابان في مقال اليوم مع تناول الصين في المقال القادم. تشهد اليابان حاليآ نتيجة مرحلة الركود الطويلة التي تمر بها حتى من قبل اندلاع شرارة الأزمة المالية العالمية في 2008 معدلات مديونية هي الأعلى بين الاقتصادات المتقدمة حيث من المتوقع أن تبلغ نسبة الدين العام الى اجمالي الناتج القومي حوالي200% حيث ستصل اجمالي الديون العامة حوالي 10تريليون دولار تقريبآ مقارنة بحجم ناتج محلي اجمالي يبلغ 5.1تريليون دولار وهو ما يتخوف معه من تبعات خطيرة ان استمر الوضع الحالي على ما هو عليه من ارتفاع حجم المديونية ونسبتها الى حجم الناتج والموازنة العامة خاصة مع اعلان مؤسسة فيتش المالية العالمية من انها ستخفض التصنيف الائتماني للدين السيادي الياباني(وهو ما يرفع من كلفة الاقتراض) ان استمر الوضع الراهن في اليابان ولكننا نجد أمامنا جانبآ آخر من القصة وهو كالتالي:
أولآ: 95% من الديون السيادية اليابانية هي ديون داخلية في يد مؤسسات يابانية خاصة مؤسسة البريد اليابانية وهي مؤسسة ادخار محلية ضخمة تضم 24 ألف مكتب في أنحاء اليابان ويعمل بها حوالي 430 ألف موظف بعضهم بدوام كامل والآخر بدوام جزئي، هذا بالإضافة إلى البنك المركزي الياباني ومؤسسات التمويل والبنوك اليابانية وكل المؤسسات السابقة تستفيد من واحدة من أعلى معدلات الادخار المحلية في العالم حيث أنه في ظل بيئة سعرية انكماشية حيث معدلات التضخم متدنية للغاية فان المواطن الياباني الذي يميل للاستثمار طويل الأجل شأنه شأن المؤسسات اليابانية فانهم يجدون ان الاستثمار في سندات الدين الحكومي والتي تتسم بدرجة عالية جدآ من الأمان ذات عائد معقول.
ثانيآ: تكلفة خدمة الدين الحكومي الياباني متدنية جدآ لا تتجاوز 1.3% من الناتج المحلي وذلك لاستفادة الحكومة اليابانية من معدلات الفائدة السائدة في اليابان والتي تلامس بالكاد صفر بالمئة مما يدفع الواطنين والمؤسسات اليابانية نحو الاستثمار في سندات الدين الحكومي بدون فرض معدلات فوائد عالية على عكس الوضع في مختلف دول العالم ومن شأن استمرار النمو أن يخفض صافي الدين الحكومي.
ثالثآ: تخلصت المصارف اليابانية بفضل دعم البنك المركزي الياباني والحكومة مما يعرف باسم الديون السامة وهو ما لا يجعلها في حاجة الى تخصيص مخصصات كبيرة لمواجهة هذه الديون مما يجعل البنوك اليابانية في وضع أفضل نسبيآ من نظيرتها الغربية وخاصة الأمريكية منها.
رابعآ: التزام الحكومة اليابانية الجديدة بزعامة الحزب الديموقراطي وعلى رأسها رئيس الوزراء ناتو كان ووزير ماليته يوشيهيكو نودا بتخفيض الإنفاق الحكومي وزيادة الايرادات ودفع النمو الاقتصادي والمالي وقصر اصدارات السندات اليابانية الحكومية الجديدة على 481 مليار دولار ويحجم كذلك المصرف المركزي عن زيادة مشترياته من السندات الحكومية البعيدة الأجل عن المستوى الحالي البالغ 210 مليار دولار باعتبار أن رصيده من السندات يقترب بالفعل من السقف الذي سبق وأن فرضه على ذاته.
كذلك لازال في يد الحكومة اليابانية رفاهية استخدام وسائل زيادة الايرادات حيث قامت الحكومات اليابانية المتعاقبة بخفض الضرائب المختلفة من أجل حفز الاستهلاك المحلي، والآن مع بداية نذر مشكلة ارتفاع الدين الحكومي تلوح في الأفق فان الحكومة اليابانية ستلجأ الى مقاربة جديدة وهي رفع الضرائب فمثلآ لازالت ضريبة القيمة المضافة في اليابان لا تتجاوز ال5% وهي أقل بكثير من معدلاتها في أوروبا وبالتالي هناك امكانية رفع مثل تلك الضريبة وهو ما قد يؤدي الى ردة فعل عكسية من قبل المستهلكين اليابانيين حيث سيلجأون الى زيادة استهلاكهم ومشترياتهم خوفآ من مزيد من الرفع الضريبي ويمكن فهم هذا الوضع الغريب الى أن المستهلكين اليابانيين تعودوا طيلة السنوات الماضية على نهج الضرائب المخفضة من أجل حفز الاستهلاك الا أنهم كانوا يحجمون عن الاستهلاك المؤثر انتظارآ لمزيد من الانخفاضات في الأسعار وبالطبع كل هذا يسير جنبا إلى جنب مع برامج ترشيد الانفاق الحكومي وما يزيد من امكانية لجوء الحكومة اليابانية الى هذا الخيار الى أنه على الرغم من كل سياسات التحفيز والتيسير الكمي التي قامت بها الحكومة اليابانية طوال الفترة الماضية الا أن آخر المؤشرات الصادرة في شهر أبريل الماضي تشير الى انكماش الأسعار بنسبة 1.6%.
خامسآ: سجلت الصادرات اليابانية (في اقتصاد تلعب فيه الصادرات دور محرك أساسي للنمو) خامس أكبر زيادة سنوية على الاطلاق في ابريل الماضي علامة على أن طلبآ قويآ من الاقتصادات الآسيوية الصاعدة يلعب دورآ هامآ في إنعاش الاقتصاد الياباني، ووفقا لبيانات أصدرتها وزارة المالية اليابانية يوم الخميس فان الصادرات صعدت في ابريل بنسبة 40.4 بالمائة مقارنة مع مستوياتها قبل عام مواصلة الارتفاع للشهر الخامس على التوالي. ومقارنة مع شهر مارس اذار زادت الصادرات في ابريل 2.3 بالمائة. وارتفعت الصادرات الى اسيا -التي تذهب اليها أكثر من نصف اجمالي صادرات اليابان- بنسبة 45.3 بالمائة عن مستواها قبل عام بفعل طلب قوي على المنتجات الالكترونية واجزاء السيارات (وهو ما يعني أن هناك طلبآ عالميآ متزايدآ على المنتجات الآسيوية الأخرى حيث أن هذه الصادرات اليابانية للدول الآسيوية الأخرى تدخل في تصنيع منتجات تامة الصنع يعاد تصديرها الى مختلف دول العالم).
وزادت الصادرات اليابانية الى الولايات المتحدة بنسبة 34.5 بالمائة مدعومة بطلب قوي على السيارات وارتفع انتاج السيارات بنسبة 48.5% في أبريل الماضي. وصعدت الصادرات الى الاتحاد الاوروبي 19.8 بالمائة عن مستواها قبل عام متباطئة من 26.7 بالمائة في مارس لكنها تسجل خامس زيادة شهرية على التوالي.
سادسآ: بدأت الصناعات اليابانية (في اقتصاد عماده الأساسي التصنيع) نتيجة اشتداد المنافسة خاصة من قبل الصناعات الآسيوية الأخرى تطبيق برامج خفض التكاليف مثل تطبيق نظام المنصات الصغيرة حيث يقوم العامل الواحد بعد حصوله على التدريب والدعم الكافيين بالقيام بتجميع وتركيب عدة مكونات في المنتج الذي يتم تصنيعه بدلآ من أن تتم هذه العملية عبر عدد من العمال وخطوط الانتاج وبالتالي تحقيق وفر في التكلفة الانتاجية مما ينعكس على السعر النهائي للمنتج مع الحفاظ على نفس مستويات الجودة المعهودة، كذلك قامت العديد من الصناعات اليابانية بنقل أو افتتاح عدد من الوحدات الانتاجية والمصانع في مناطق أخرى داخل وخارج اليابان من أجل الاستفادة من رخص الأيدي العاملة والقرب من المواد الخام.
سابعآ: تواجه اليابان مشكلة شيخوخة المجتمع الياباني وانخفض معدلات المواليد مما يجعل أعداد اليابانيين في تناقص، وتواجه الحكومة اليابانية هذه المشكلة بتقديم حوافز سخية للأسر التي يزيد فيها عدد المواليد واعتماد المزيد من المستويات التكنولوجية العالية (واليابان لا تألوا جهدآ في ذلك) في مجالات العمل المختلفة مما يقلل من تأثير قلة الأيدي العاملة اللازمة وكذلك هناك امكانية فتح الحكومة اليابانية المجال أمام الهجرات الأجنبية فلطالما اشتهر المجتمع الياباني بأنه مجتمع منغلق على المهاجرين الأجانب الا أن الأوضاع الجديدة والانفتاح والمنافسة العالميين يؤديان بلا شك الى تغيير كثير من التابوهات والأفكار السابقة.