مؤشرات الدين العام

15/06/2010 3
د.محمد إبراهيم السقا

كان من المفترض أن يكون مقال اليوم هو الحلقة الثالثة من مقالات إعادة التفكير في العملة الخليجية الموحدة، وأن يتناول معايير التقارب، غير أن فهم معايير التقارب بصورة أفضل يتطلب أن يكون لدى القارئ خلفية عن مؤشرات الدين العام ومخاطر ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي... الخ. لذا آثرت أن يكون مقال اليوم عن الدين العام، كمدخل لمقال الأسبوع القادم عن معايير التقارب في العملة الخليجية الموحدة إن شاء الله.

ينمو الدين العام للدولة بسبب حاجة الدولة للاقتراض لمواجهة العجز في ميزانياتها العامة، وينشأ هذا العجز بسبب قصور إيرادات الدولة من مصادرها المختلفة (ضرائب ورسوم ودخول.. الخ) عن مواجهة نفقاتها العامة، سواء أكانت جارية أم رأسمالية.

هذا العجز لا بد وأن يسوى، لأنه عبارة عن مرتبات لموظفين في دواوين الحكومة لا بد وأن تدفع، أو فواتير لمستلزمات أساسية لا بد وان يتم توريدها مثل الأدوية في المستشفيات الحكومية، أو فواتير لمقاولين يقومون بإنشاء مشروعات عامة مثل شق طريق لابدوأن تسدد، أو خدمات تؤدي إلى المصالح الحكومية المختلفة لا بد من تسوية قيمتها.. الخ.

العجز في الميزانية العامة للدولة لا يمكن إذن تأجيله، وهو عجز واجب السداد، وعلى الحكومة أن تقوم بتدبير الموارد اللازمة لسداد هذا العجز، وإلا تحدث مشكلات كبيرة نتيجة لذلك أهمها، كما يتضح مما ذكر، اضطراب عملية تقديم السلع والخدمات العامة مثل مد المساكن بالكهرباء، أو توفير خدمات الرعاية الصحية، أو تقديم الخدمات التعليمية... الخ، ويفترض عندما تقوم الدولة بالاقتراض فإنه يتوقع أن يكون لديها تصورا حول تدفقات الإيرادات في المستقبل، بحيث تتمكن في نقطة زمنية ما من إطفاء هذا الدين العام، وإلا فإن الدين العام سوف يستمر في الارتفاع بما قد يجعله خارج نطاق السيطرة، وتنشأ نتيجة لذلك أزمة مديونية للدولة.

ويقصد بأزمة المديونية أساسا المديونية السيادية، أي الديون المقومة بعملات أجنبية، لأن الدين المقوم بالعملة المحلية يكون اقل خطرا من الدين المقوم بالعملات الأجنبية، وأسهل في التعامل مع أقساط خدمته، كما أنه لا يؤدي إلى الإعلان عن إفلاس الدول في الغالب.

وللسيطرة على نمو الدين العام، يفترض ان تضع الدولة مستهدفات محددة للعجز في الميزانية العامة لها، حتى لا تضطر إلى اقتراض قدر كبير من الديون لتبدأ معها متاعبها الاقتصادية المرتبطة بحجم دين عام ضخم.

على سبيل المثال تنص اتفاقية ماسترخت أن الدول الأعضاء في اليورو لا يجب أن يتجاوز عجز الميزانية لديها بالنسبة إلى الدين العام عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا، ويتمثل الهدف من هذا الشرط في التأكد من عدم نمو نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على نحو مفرط.

ويفترض أن أي دين حكومي يقابله توقعات باحتمال تحقيق فوائض في الميزانية العامة للدولة في المستقبل يتم استخداما لخدمة الدين الحكومي من خلال سداد أقساطه ومدفوعات الفوائد عليه.

فإذا لم يكن هناك احتمال لتحقيق فوائض في الميزانية في المستقبل فيجب ان تحرص الدولة على عدم خروج الدين العام عن الحدود المقبولة لعلاقته بالناتج المحلي الإجمالي وتطورات معدل التضخم، حتى لا ترتفع مدفوعات خدمة الدين كنسبة من الناتج وتدخل الدولة في مشكلة حقيقية للمديونية العامة، ويركز الاقتصاديون بصورة واضحة ليس على حجم الدين العام من الناحية المطلقة، وإنما على نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، حيث تعمل قوتان بمرور الوقت على التخفيف من ضغط الدين العام، الأولى هي نمو الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم تراجع نسبة الدين العام إلى الناتج، هذا على افتراض ان معدل نمو الناتج المحلي أكبر من معدل نمو الدين العام، والقوة الثانية وهي معدل التضخم، الذي يقلل من القيمة الحقيقية للدين ومن ثم القيمة الحقيقية للالتزامات المالية الحكومية بالنسبة لدينها العام، بشرط أن يكون الدين مقوما بالعملة المحلية.

على سبيل المثال كان الدين العام الأمريكي في عام 1920 حوالي 25 مليار دولارا، وكان هذا الدين في هذا الوقت يعد ثقيلا، حيث بلغت نسبته حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في هذه السنة، واليوم الدين العام الأمريكي تجاوز الـ 13 تريليون دولارا.

الدين العام أصبح في عالم اليوم ظاهرة مقلقة، بصفة خاصة الديون السيادية، نتيجة للظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها العالم والتي تقتضي ضرورة ان تتبنى دول العالم سياسات مالية تؤدي حتما إلى تصاعد عجز ميزانياتها بهدف تحفيز مستويات النشاط الاقتصادي لديها والخروج من الأزمة، ونتيجة لذلك تزايدت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الكثير من دول العالم خلال الأزمة، وبلغت في بعض الدول مستويات حرجة بصورة دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن الديون العامة قد تتحول إلى ظاهرة غير قابلة للاستدامة، وأنها مرشحة للانفجار في أي وقت، وأن الأزمة المالية القادمة ربما تكون أزمة الديون العامة لدول العالم، خصوصا بعد الآثار الحرجة التي تركتها أزمة اليونان على الأسواق المالية العالمية وثقة المستثمرين في سندات الدين العام بشكل عام.

غير أن الأمر الذي يجب ان نركز عليه هنا هو أن تصاعد الدين المحلي حاليا يعد ظاهرة مؤقتة حيث ارتبطت بالأزمة، ومن ثم فإنه لا يمكن الادعاء بوجود اتجاه عام نحو حدوث تصاعد في الدين العام على المستوى العالمي بشكل يدعو إلى القلق حول استدامة الدين العام، وبالتالي ما إن تنتهي الأزمة، وتنتهي معها الضغوط التي خلقتها على المالية العامة لدول العالم المختلفة فان ضغوط العجز سوف تتراجع، ومن ثم تتراجع معها حدة النمو في الدين العام ودرجة خطورة الظاهرة.

أهم المؤشرات في الدين العام على الإطلاق هو نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يرتبط أيضا بنسبة عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي، على سبيل المثال إذا فرض ان عجز الميزانية لدولة ما هو 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، وبفرض أن العجز سيتم تمويله بالكامل من خلال الاقتراض، أو نمو الدين العام، وإذا ما افترضنا أن الناتج المحلي الإجمالي ينمو بنسبة 2%، فإن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي سوف تظل ثابتة في هذه الحالة.

ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أن تكلفة خدمة الدين العام سوف تظل أيضا ثابتة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، حيث ستتزايد الإيرادات العامة للدولة (مثل إيراداتها الضريبية) بنفس النسبة، ومن ثم تظل خدمة الدين العام تحت السيطرة، وهذا هو أهم ما يبحث عنه المستثمرون في الدين العام للدولة، أي أن تظل قدرة الدولة على خدمة ديونها العام مستقرة على نحو مستدام.

المشكلة تصبح بالطبع اقل حدة إذا كان النمو في الدين العام أقل من النمو في الناتج المحلي الإجمالي، في هذه الحالة ليس هناك أي خوف من حدوث مشكلة دين عام، حيث ستزداد قدرة الدولة على خدمة دينها العام مع تصاعد معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي، ومن ثم تزايد الإيرادات العامة بنسبة أعلى من نمو الدين العام.

أي أنه على الرغم من تزايد الدين العام، فإن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي سوف تميل نحو التراجع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان نسبة مدفوعات خدمة الدين العام إلى الإيرادات العامة للدولة (أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) سوف تميل نحو التراجع هي الأخرى.

أما إذا كانت نسبة النمو في الدين العام أكبر من نسبة النمو في الناتج فإن الدولة تواجه مشكلة في هذه الحالة، حيث تقل قدرتها على خدمة ديونها بمرور الوقت، يعتمد ذلك على معدل نمو الدين العام.

هذه هي المشكلة الأساسية التي تواجه اليونان حاليا، فعلى الرغم من قيام اليونان بتطبيق حزمة إصلاحات في هيكل المالية العامة لها، وتنفيذ برنامج قاس للتقشف، والذي يفترض أن يؤدي إلى تخفيض الميل نحو الاقتراض والسيطرة على نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن آفاق النمو في اليونان لا تبشر بالخير، حيث يتوقع ان يتراجع معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي لها لعدة سنوات قادمة، ومن ثم تتعقد مشكلة ديونها السيادية بارتفاع نسبة الدين السيادي إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة مدفوعات خدمة الدين إلى الإيرادات العامة للدولة، ومن ثم ضعف قدرتها على خدمة ديونها.