نشر في جريدة الوطن البحرينية بتاريخ الاثنين 24/5/2010،المصاعب التي تتعرض لها اليونان والضغوط التي يواجهها الاتحاد النقدي الأوروبي اليوم تظهر بصورة جلية المخاطر المحتملة للاتحاد النقدي إذا كان الأساس الذي قام عليه هذا الاتحاد هشا. وقد حذرت بعض الكتابات في مستهل نشأة اليورو بأن الاتحاد النقدي الأوروبي يفتقد لشروط ما يسمى بمنطقة العملة المثلى، ومن ثم فإنه لا ينبغي إصدار اليورو، أو على الأقل لا ينبغي إصدار اليورو بمثل هذا العدد من الأعضاء قبل استيفاء شروط تحول الاتحاد إلى منطقة عملة مثلى.
غير أن دول الاتحاد النقدي الأوروبي كانت قد قررت المضي في الطريق وضم أكبر عدد ممكن من الدول الراغبة في الانضمام، على أمل أنه مع انطلاق اليورو كعملة موحدة سوف يتم التغلب على أية مشكلات تعترض الاتحاد في المستقبل. وقد بدا ظاهريا على الأقل، أن أمنيات أعضاء منطقة اليورو تتحقق طالما أن الظروف التي يمر بها العالم، أو تمر بها بعض دول منطقة اليورو طبيعية.
عندما تبدلت الأوضاع على النحو المأساوي الذي رأيناه في الأسابيع الماضية، وضعت نظام اليورو بأكمله في مهب الريح، وبدأنا نسمع بصورة متكررة الحديث عن قرب انهيار اليورو. بالنسبة لي شخصيا، لا أرى بأن اليورو على حافة الانهيار، على الأقل في ضوء الأوضاع الحالية للمنطقة، ولكن اليورو يواجه تهديدات حقيقية، وأن الأمر يتطلب بالفعل إصلاح النظام الذي قام على أساسه اليورو حتى لا يتعرض لا حقا لمثل هذه الأزمات الحادة، ولكن هذا ليس موضوعنا اليوم، موضوعنا هو الدروس التي يمكن أن نستفيد منها من هذه الأزمة؟، خصوصا وأن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد قررت المضي في طريق الاتحاد النقدي وإصدار العملة الخليجية الموحدة، على الرغم من المخاطر الجمة التي يمكن أن تعترض الإطلاق الناجح لمثل هذا المشروع، وهو موضوع ربما أعود للتفصيل فيه لاحقا، ولكني أرى أن أهم الدروس التي يمكن استيعابها من الأزمة اليونانية تتمثل في الآتي:
• الدرس الأول: هو أن شروط التحول نحو إنشاء عملة موحدة (منطقة عملة مثلى) ينبغي أن تؤخذ بالجدية الكافية عند إنشاء الاتحاد، وأن النوايا السياسية الحسنة ليست ضمانا كافيا لاستقرار الاتحاد النقدي طالما أنه لا يستوفي شروط إنشاءه، فالمخاطر التي قد لا تبدو واضحة للعيان الآن عند إنشاء الاتحاد النقدي قد تطفو على السطح يوما ما وتسبب من النتائج ما قد يحمل بذور انهيار منطقة العملة الموحدة وبتكاليف مرتفعة للغاية. باختصار شديد فإن شروط منطقة العملة المثلى هي أن الدول الأعضاء الاتحاد النقدي تشترك في نفس الدورات الاقتصادية حتى يسهل ان يتم إتباع سياسة نقدية موحدة تستهدف دورات الأعمال لكل الدول الأعضاء، بما يساعد على تحقيق الاستقرار الاقتصادي اللازم في كافة دول الاتحاد، وحينما لا تكون دورات الأعمال في الدول الأعضاء متشابهة، فان السياسة النقدية الموحدة قد تجلب وتعمق عدم الاستقرار في الاتحاد بدلا من أن تؤدي إليه، لأنها سوف تساعد مجموعة من الدول على حساب الدول الأخرى، فإذا كانت السياسة النقدية توسعية فإنها سوف توفر الحوافز لاستعادة النشاط الاقتصادي في الدول التي تعاني من حالة كساد، بينما تؤدي إلى الإضرار بالدول التي تواجه حالة رواج في ذات الوقت، حيث ستؤدي إلى رفع درجة سخونة الاقتصاد في هذه الدول. وإذا كانت السياسة النقدية متشددة فإنها سوف تساعد الدول التي تعاني من الضغوط التضخمية، بينما تعقد مشكلات الدول التي تواجه ضغوطا انكماشية. من شروط منطقة العملة المثلى أيضا أن يتوافر لدى الدول الأعضاء آليات تساعدها على سهولة امتصاص الصدمات الاقتصادية، مثل مرونة تحديد الأسعار والأجور، وسهولة انتقال عناصر الإنتاج بين الدول الأعضاء، بصفة خاصة عنصر العمل، فضلا عن توافر نظم تسمح بإجراء تحويلات مالية بين الدول الأعضاء لمساعدتها على مواجهة أية أزمات في السيولة المتاحة لها. اليونان لم تكن تشترك مع باقي دول أوروبا في دورة الأعمال، حيث أنها تواجه حالة كساد، بينما تستعد باقي الدول لاستعادة النشاط الاقتصادي فيها، كما أنها لا تمتلك آليات لامتصاص الصدمات لكي تستطيع أن تحسن من تنافسيتها وتعيد التوازن لاقتصادها المتدهور، فكانت النتيجة أنها وضعت نظام اليورو كله في مهب الريح.
• الدرس الثاني: هو أنه لا يجب على الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي أن تحلم بأنها سوف تصبح اتحادا نقديا ناجحا من خلال استيفاءها الشروط منطقة العملة المثلى لاحقا، أو بمرور الوقت. عندما تم إنشاء الاتحاد النقدي الأوروبي، لم تستوف كافة الدول الأعضاء شروط منطقة العملة المثلى، ومع ذلك تم الدفع في اتجاه الاتحاد النقدي استنادا إلى أن هذه المعايير سوف تأتي لاحقا عندما يتم إطلاق العملة الموحدة. مع إطلاق اليورو بدأت آثاره الايجابية ترتد على الدول الأعضاء في اليورو، بصفة خاصة تقليل تكلفة المعاملات بين الدول الأعضاء نتيجة استخدام عملة واحدة، وتشجيع التبادل التجاري بينها، وتسهيل انتقال رؤوس الأموال بين دول المنطقة.
غير أن درجة استفادة الدول الأعضاء من هذا المزايا لم تكن واحدة، ومن ثم فان المزايا التي انعكست على بعض الدول من التحاقها بالاتحاد الأوروبي لم تكن تبرر التحاقها بالاتحاد الأوروبي، مثل اليونان، ومن ثم لا يجب أن يتم إرساء أساس الاتحاد النقدي على الآمال بتمكن الدول الأعضاء من استيفاء متطلبات الاتحاد النقدي، أو تعظيم استفادتها منه لاحقا.
• الدرس الثالث: أن وجود الدولة عضوا في الاتحاد النقدي يفرض عليها أن تتابع عن كثب تنافسيتها الخارجية سواء داخل منطقة الاتحاد النقدي أو خارج الاتحاد النقدي، ذلك أن ارتفاع الأسعار في إحدى الدول الأعضاء يؤدي إلى أن سلعها تصبح أكثر كلفة بالنسبة للخارج، ومن ثم سوف تفقد هذه الدولة جانبا من إيراداتها بالنقد الأجنبي نتيجة لتراجع صادراتها واحتمال حدوث عجز في ميزان مدفوعاتها، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، وبصفة خاصة عندما يتزايد اعتماد هذه الدولة على التمويل الخارجي فإن تأثير هذه المشكلة يصبح أكثر وضوحا.
لكي ترفع من تنافسيتها فإن أمام اليونان حلين، الاول هو أن تخفض من الاجور الحقيقة للعمال بها من خلال التضخم مثلا، أو أن تخفض قيمة عملتها المحلية. المشكلة إذن بالنسبة لليونان كانت ذات وجهين، الأول يرجع إلى ضعف مرونة عملية تحديد الأجور بها بما يضمن خفض الأجور في ظل تراجع التنافسية، ومن ثم مالت أسعار السلع اليونانية نحو الارتفاع بصورة أكبر من باقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولم يساعد ذلك على معالجة تنافسيتها المتراجعة، والثاني هو أن معدل الصرف بالنسبة لها يعتبر ثابتا باعتبارها عضو في اتحاد نقدي، ذلك أن الوحيد الذي يمكنه ان يتخذ السياسات التي تؤثر على معدل صرف اليورو هو البنك المركزي الأوروبي، ومن ثم لم تتمكن اليونان من ان تلجأ إلى تخفيض قيمة العملة التي تتعامل بها كسبيل لزيادة تنافسيتها.
هذا الوضع الحرج ترك اليونان أمام خيارين، إما ان تغرق في الكساد، أو أن تترك العملة الموحدة وتعود لعملتها الوطنية السابقة (الدراخمة)، كي تتمكن من رفع تنافسيتها من خلال تخفيض قيمة عملتها الوطنية وزيادة قدرتها على توفير إيرادات بالنقد الأجنبي تمكنا من سداد التزاماتها. وقد نظر إلى كلا الخياران بأنهما يعدان فشلا جزئيا للاتحاد النقدي الأوروبي.
• الدرس الرابع: هو أن دور البنك المركزي في الاتحاد النقدي يعد مهما جدا في جلب الاستقرار الاقتصادي للدول الأعضاء في الاتحاد، وذلك من خلال سعيه الدائم على تثبيت مستويات الطلب الكلي عن طريق المزيد من التوسع النقدي في أوقات الأزمات، وذلك لتحفيز مستويات النشاط الاقتصادي. خلال فترة الأزمة أو الفترة السابقة عليها، لم يقم البنك المركزي الأوروبي بما يجب أن يقوم به لتحقيق الاستقرار في الكتلة النقدية الأوروبية، فقد سمح البنك المركزي الأوروبي لمستويات النشاط الاقتصادي بأن تتراجع بصورة حادة في منطقة اليورو بدون اتخاذا الإجراءات اللازمة للتعامل مع هذا التراجع، نظرا لأن أن السياسة النقدية الأوروبية كانت متشددة بشكل عام والتي كانت تساعد اليورو على استمرار الارتفاع في مقابل العملات الأخرى، بصفة خاصة الدولار، غير أنه مع اشتعال الأزمة بدأ اليورو يدفع ثمن هذه السياسات النقدية غير المواتية.
• الدرس الخامس: هو أنه لا بد من إعطاء الأولوية المطلقة لتعزيز الآليات الرامية إلى منع السياسات الداعمة للتقلبات الدورية والصدمات المالية على مستوى الدول الأعضاء، وذلك من خلال وضع نظام دقيق لمراقبة الأوضاع المالية في الدول الأعضاء، وتعزيز مصداقية وشفافية القواعد المحاسبية التي تتبعها الدول الأعضاء والتي يتم في ضوئها تعريف وتحديد عجز الميزانيات العامة للدول الأعضاء، ونسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب الرصد الدقيق لنمو فقاعات الأصول المالية في الدول الأعضاء، والتي يمكن أن تتسبب في حال انفجارها في إحداث الركود في دول الاتحاد النقدي.
• الدرس السادس: هو انه يبدو أن على الحكومات التي تقرر أن تدخل في اتحاد نقدي أن تضمن لنفسها نظاما ماليا مركزيا وآليات مناسبة ومصممة لكي تسمح بتوفير التحويلات المالية بصورة سريعة للدول التي قد تعاني من أزمات سيولة مؤقتة، حتى تتجنب تفاقم الأوضاع المالية لهذه الدول وتضمن استقرار الأسواق المالية داخل الاتحاد، بغض النظر عن من سوف يتحمل العبء المالي والمدى الزمني لهذا العبء، طالما أن الهدف الأساسي هو ضمان استمرار الأوضاع داخل الاتحاد مستقرة. لقد أبرزت أزمة اليونان بوضوح أن العملة الموحدة لا تقتضي فقط مجرد تنسيق في السياسات النقدية وإسناد مهمة رسم هذه السياسات لبنك مركزي موحد مثل البنك المركزي الأوروبي، وإنما يجب أن يكون هناك قدر عال جدا من التنسيق في السياسات المالية للدول الأعضاء بما يسمح بتجنب آثار أي تدهور في الأوضاع المالية لأي من الدول الأعضاء على العملة الموحدة.
• الدرس السابع: والأخير وهو أن إطلاق اتحاد نقدي يعد بمثابة بداية تعاون سياسي أوثق وتضامن أوسع بين حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد، وأن هذا التعاون لا بد وأن يكون عملية مستمرة وفي كافة الظروف والأحوال، سواء الجيدة أو السيئة.
هذه هي مجموعة الدروس التي اعتقد انه يمكن الاستفادة منها من الأزمة الحالية للاتحاد النقدي الأوروبي، والتي ينبغي أن يتم مراعاتها عند الإعداد لإطلاق العملة الخليجية الموحدة، فالاتحاد النقدي لا ينبغي أن يستند إلى أماني وآمال، بقدر ما يستند إلى حقائق على ارض الواقع وشروط لا بد من استيفاءها، حتى نتجنب الآثار المدمرة التي يمكن ان تترتب على الإطلاق غير الناجح للعملة الخليجية الموحدة.
دول مجلس التعاون مدعوة إذن إلى أن تصيغ وبشكل واضح آليات التعامل مع الأزمات التي يمكن ان تنشأ بعد إطلاق العملة الخليجية الموحدة، أما أن تترك المجال مفتوحا بدون تحديد هذه الآليات بوضوح فمن الممكن أن يتسبب ذلك في تضاعف آثار أي أزمة إذا ما نشأت، وهو ما قد يحول العملة الموحدة إلى تهديد لمشروع التعاون وليس دعما له، خاصة في أوقات الأزمات، خصوصا، كما سبقت أن أشرت في أكثر من موضع، أنه سيتم استبدال عملات قوية، مثل الريال السعودي ومستقرة مثل الدينار الكويتي، بعملة سوف تتأثر ليس فقط بالأوضاع الاقتصادية الداخلية لكل دولة وإنما بالأوضاع الاقتصادية لأربعة دول حاليا، وستة دول محتمل أن تكون أعضاء في المستقبل.
إذا كانت أوروبا بهياكل اقتصادياتها القوية لم تتمكن من إيجاد المناخ المناسب لاستقرار عملتها الموحدة في أوقات الأزمة، فكيف باقتصاديات دول مجلس التعاون التي تتقلب أوضاعها المالية بشكل كبير مع تقلبات إيراداتها النفطية، وفي ظل فشل معظم الأعضاء حاليا في أن ينوع هياكله الاقتصادية على النحو الذي يضمن حماية الاقتصاد المحلي من الصدمات الخارجية المرتبطة بالطلب العالمي على النفط، فإنه يمكن القول بأن مصادر التهديد الكامن للعملة المقترحة هي حقيقية ومتعددة، ومن ثم فإن مستوى التنسيق في السياسات بين دول المجلس في ظل الاتحاد النقدي الخليجي يجب أن يكون على النحو المناسب الذي يوفر الحماية التامة لهذه العملة المقترحة.