لست من أنصار التطرف في التحليل، وأميل دائما إلى أن أبني تصوراتي على ما هو متاح أمامي من مؤشرات، وأكره التحليل الذي يطلق الأحكام عن جهل بمعطيات الواقع أو بدون الارتكاز إلى الأرقام الحقيقية التي تأتي من الاقتصاد، أو ربما بسبب عدم وجود خلفية اقتصادية متينة تمكن المحلل من أن يصل الى خلاصات سليمة. بصفة خاصة لا أميل إلى أن أسير مع ما يطلقه جهلة التحليل الاقتصادي بأن الاقتصاد الأمريكي انتهى أمره إلى الأبد، أو أن هناك أزمات أقسى وأكبر في الطريق سوف تدمر الاقتصاد الأمريكي لمجرد أنه وقع على خبر في صحيفة أو موقع على الانترنت، أو أن الصين تستعد لكي تضرب الولايات المتحدة الضربة القاضية ... إلى آخر هذه العبارات التي لا تقوم على أساس من التحليل السليم والمتعمق لمجريات الأمور على الساحة الاقتصادية والمؤشرات الاقتصادية الحقيقية والبعيدة كل البعد عن الحقائق المؤكدة بأن الاقتصاد الأمريكي ما زال وسيستمر لفترة زمنية طويلة أكبر وأقوى اقتصاد في العالم. اليوم أنقل للقارئ أخبارا جيدة عن اتجاهات التوظف في سوق العمل في الولايات المتحدة.
الشكل التالي يعد أشهر رسم بياني في العالم حاليا، ويتابعه الملايين في العالم بصورة شهرية، للتعرف على اتجاهات التوظيف في الولايات المتحدة الأمريكية وهل بالفعل خرجت الولايات المتحدة من أزمتها الحالية أم لا. سوف أتناول موضوع الدورات الاقتصادية ومؤشراتها وكيفية الحكم على حدوث كساد من عدمه، وكيفية الحكم على انتهاء الكساد أو استمراره، وما هي المؤشرات التي تستخدم في ذلك وشروط الخروج من الكساد... الخ. لكن أحد المؤشرات المهمة في الحكم على الدورة الاقتصادية هي معدلات التوظف، والتي تزداد عندما يكون الاقتصاد في حالة رواج، حيث تنخفض معدلات البطالة وترتفع المستويات العامة للأسعار (التضخم) نتيجة زيادة الدخول بفعل ارتفاع معدلات التوظف والأجور، ومن ثم زيادة الطلب الكلي في الاقتصاد. أما في حالات الكساد فان معدلات التوظف تأخذ في التراجع وترتفع معها معدلات البطالة ومن ثم يقل الطلب الكلي بفعل انخفاض مستويات الدخول ومن ثم تراجع معدلات الزيادة في الأسعار (التضخم). ومن ثم فان تطورات معدلات التوظيف (ومن ثم معدلات البطالة) هي أحد المؤشرات الهامة في الدورة.
أعود إلى الشكل التالي الذي يوضح تطورات معدلات التوظف في الولايات المتحدة الأمريكية خلال حالات الكساد التي مر بها الاقتصاد الأمريكي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن. الشكل البياني قد يبدو معقدا نظرا لتعدد المنحنيات التي يحتوي عليها، ولكن سأحاول تبسيط الشكل البياني. المحور الرأسي يقيس نسبة الفقد في الوظائف مقارنة بالشهر الذي بلغت فيه معدلات التوظف أقصى مستوياتها قبل الكساد، بينما يقيس المحور الأفقي عدد الأشهر التي استمرت فيها معدلات التوظف في التراجع (المساحة قبل العمود الرأسي الأسود والمقطع، والذي يشير إلى قاع الدورة مقاسا بمعدلات التوظف) وعدد الأشهر التي استلزمها الأمر حتى تعود معدلات التوظف إلى مستوياتها الطبيعية قبل حدوث الأزمة (المساحة بعد العامود الأسود المقطع) أي في الشهر الذي بلغت فيه معدلات التوظف أقصى مستوياتها، وبالتالي فان كل منحنى من المنحنيات في الشكل يوضح معدلات الفقدان في التوظف من ناحية وطول الفترة الزمنية التي استمرت فيها معدلات البطالة مرتفعة من ناحية أخرى.
على سبيل المثال يشير المنحنى الأصفر إلى الكساد الذي حدث في الولايات المتحدة في عام 1980، والذي حدث نتيجة ارتفاع أسعار النفط بفعل الثورة الإيرانية ومغامرة صدام حسين ببدء حربه المقدسة ضد إيران، اعتقد العالم أن أسعار النفط سوف تتضاعف عدة مرات، مثلما حدث في الحرب بين العرب وإسرائيل في 1973، وبالفعل بلغ سعر البرميل من النفط الخام أعلى مستوياته في السوق الحر في هذا العام عند 50 دولارا، وهو سعر مرتفع جدا بمقاييس تلك الفترة الزمنية. المهم أنه قد حدث كساد في الولايات المتحدة وتراجعت معدلات التوظف لمدة أربعة أشهر من بدء الكساد، غير أن هذا النوع من الكساد كان سريعا، حيث ارتفعت معدلات التوظف بعد ذلك مع استعادة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة لمستوياتها وانخفضت بالتالي معدلات البطالة، واستغرق الأمر حوالي 6 أشهر حتى استعاد التوظف مستوياته عند حدوث الكساد، خلال هذا الكساد فقدت الولايات المتحدة حوالي 1.25% من عدد الوظائف مقارنة بالشهر الذي بلغت فيه مستويات التوظف أقصى مستوياتها قبل الكساد. لاحظ أن المنحنى يأخذ شكل حرف V، وهو ما يعرف برمز استعادة النشاط السريع، وذلك إذا ما كان المدى الزمني للكساد محدودا.
والآن انظر إلى المنحنى البني اللون (كساد 2001)، لاحظ أن هذا الكساد كان أقسى حالات الكساد على سوق العمل الأمريكي من حيث المدى الزمني الذي استمرت فيه معدلات البطالة في الارتفاع، حيث استمرت معدلات التوظف في التراجع لمدة 29 شهرا متتالية، قبل أن يحدث انعكاس الدورة وتستمر معدلات التوظف في الارتفاع ببطء نسبيا خلال مدى زمني قدره 18 شهرا قبل أن تستعيد معدلات التوظف مستوياتها قبل الأزمة (عند الشهر الذي بلغت فيه معدلات التوظف أقصاها قبل حدوث الأزمة). مما يعني أن أثر الأزمة على سوق العمل استمر لمدة 47 شهرا على التوالي (حوالي 4 سنوات).
قبل حدوث الأزمة الحالية كان ينظر إلى الكساد الذي حدث في عام 1948 (المنحنى الأزرق) بأنه أقسى حالات الكساد فيما يتعلق بمعدلات الفقد في الوظائف والتي بلغت حوالي 5.3% تقريبا مقارنة بالوضع قبل الأزمة. غير أن الكساد الحالي (المنحنى الأحمر) ضرب هذا الرقم القياسي في معدلات الفقد في الوظائف، حيث فقد سوق العمل حوالي 6.2% من الوظائف (مقارنة بالشهر الذي بلغت فيه معدلات التوظف أقصى مستوياتها قبل حدوث الأزمة)، وقد استمر نزيف فقدان الوظائف لمدة 24 شهرا متتالية، قبل أن يحدث انعكاس اتجاهات معدل البطالة منذ شهر واحد فقط (الشهر الماضي).
تجدر الإشارة إلى أنه من الممكن أن يحدث تراجع في معدلات التوظف لاحقا حتى لا نتسرع في الحكم على اتجاهات سوق العمل، نحتاج إذن إلى استمرار معدلات التراجع في فقدان الوظائف لعدة أشهر متتالية حتى يمكننا الحكم باطمئنان على انتهاء اثر الأزمة على سوق العمل الأمريكي. غير أن هذه الإخبار تعد جيدة بشكل عام حتى الآن، وأميل إلى الاعتقاد بأن معدلات التوظف سوف تأخذ في التحسن بشكل متتابع، ما لم تتعقد الأمور في أوربا على نحو أسوأ مما شهدناه الأسابيع الماضية، وهو احتمال وارد، ولكن حتى حدوث هذا الاحتمال، فإن هذه الإخبار، مرة أخرى، تعد جيدة، المنحنى يشير إلى بدء عملية انعكاس اتجاه الدورة بالفعل على سوق العمل الأمريكي.
ولكن ما هو المدى الزمني الذي ستستغرقه الدورة الحالية لاستعادة معدلات التوظف إلى مستوياتها قبل حدوث الأزمة (الشهر الذي بلغت فيه معدلات التوظف أعلى مستوياتها)؟ لا بد من الانتظار لمعرفة عدد الأشهر التي سينهى خلالها أثر الأزمة الحالية. الأزمة الحالية كانت إذن أزمة قياسية على معدلات البطالة في الولايات المتحدة، ولكن هل ستكون هذه الأزمة قياسية أيضا في طول الفترة التي استغرقها سوق العمل حتى يحدث التعافي التام من الأزمة، هذا ما سوف تخبرنا عنه الأشهر القادمة.
شكراً دكتور محمد الاقتصاد الاميركي يعتمد بشكل كبير على انفاق المستهلكين (الطلب). والاسر الاميركية غارقة في الديون، مما يؤثر على مستوى الانفاق. عندما تقل الديون، سيرجع الانفاق (الطلب)، وسيتبعه (العرض) ومن ثم سوق العمل. اعتقد ان كثير من الاسر الاميركية قلصت من ديونها، طوال الفترة الماضية. المشكلة التي اعانيها ان الارقام الرسمية في تقارير مكتبوبة باللغة الانجلينزية وانا لا اجيد اللغة الانجلينزية لاستخراجها، واعتمد على ما ينشر في الصحف والمواقع باللغة العربية، ولهذا كثيراً ما نفهم الامور بشكل غير صحيح. لكن الحمد الله، أننا تعرفنا على موقع أرقام، وبه كتاب لهم مكانتهم ووزنهم العلمي مثل الدكتور محمد السقا.
عودة معدلات البطالة الى الانخفاض براي سوف تأخد مدة طويلة نسبيا، ولن نبالغ بالتفاؤل ولن تكون تحسنات حادة نظرا لمشكلة اوروبا و خطط التقشف التي ستؤثر سلبا بالتأكيد على الانتعاش الاقتصادي العالمي
شكرا أخي عباس على تعليقك الرقيق
شكرا نور نعم هناك تحاليل كثيرة جدا في هذا المجال، وهي للأمانة متضاربة، على سبيل المثال هناك من يرى أن هذا النمو في الوظائف هو نمو مصطنع، مصدره الرئيسي هو برامج التحفيز المالي الضخمة التي انفقتها الولايات المتحدة، وأنه بما أن هذه الحزم اقترب أجل تأثيرها المباشر فمن الممكن أن تنعكس اتجاهات التأثير على سوق العمل، نعم اتقق أن عودة سوق العمل الى وضعه قبل الازمة، قد تأخذ وقتا طويلا نسبيا، ولكن ما هو طول هذا الوقت، هذه أخبار سوف نعرفها في المستقبل انشاء الله.
شكراً دكتور نقلاً عن رويترز "وعن الاقتصاد الامريكي قال فولكر (رئيس الاحتياطي الأمريكي سابقاً و المستشار الاقتصادي لأوباما حالياً ) انه ليس قلق بشأن التضخم لكنه حذر من أن التضخم قد يصبح مشكلة في المستقبل وأن العجز الكبير في الميزانية يفاقم من هذه المخاطر.وقال فولكر "اننا ندير عجزا كبير." وأضاف "صرنا أكثر ميلا للاستهلاك وأقل ميلا للاستثمار والتصدير.. وهذه تحديات ضخمة." هل فعلاً التضخم في أمريكا قد يصبح مشكلة في المستقبل ؟ وهل فعلاً الاقتصاد الأمريكي أصبح أكثر ميلاً للاستهلاك و أقل ميلاً للاستثمار و التصدير؟ ولماذا ذلك؟ وماهو تأثير ذلك بالتحديد على مستقبل الاقتصاد الأمريكي تحياتي
شكرا أبو عبد الله اقرأ آخر مقالاتي على مدونتي عن آخر بيانات التضخم في الولايات المتحدة وأثر التضخم على الدولار الامريكي http://economyofkuwait.blogspot.com/2010/05/blog-post_20.html نعم الاقتصاد الامريكي اصبح أكثر ميلا للاستهلاك، ومن ثم اقل ميلا (نتيجة لذلك نحوالتصدير)، والسبب الاساسي هو اعتماد الاستهلاك في جانب كبير منه على الثروة. بصفة خاصة الثروة العقارية، وفي ظل انفلات عمليات الاقراض يرتفع الميل المتوسط للاستهلاك لدى الفرد الامريكي بشكل عام. آخر البيانات المتاحة تشير الى حدوث تحول بسيط في سلوك الفرد الذي أصبح يميل حاليا نحو الادخار عما سبق، لكني لا أعتقد أن هناك أي خوف على مستقبل الاقتصاد الامريكي. تحياتي أبو عبد الله