أتت فكرة أسواق المال من منطلقات عدة، فهي مصدر أساس لتمويل المنشآت لكي تستطيع توسيع قاعدة إنتاجها.. وبالتالي رفد الاقتصاد الوطني بمزيد من الإيرادات وفتح الفرص الوظيفية.. وهي أيضاً تحقق الفرصة السهلة لضخ استثمارات الأفراد في مشاريع لا يستطيعون إنشاءها بأنفسهم.. إما لعامل الخبرة.. أو لمحدودية رأس المال.. لكن الأهم هو مساعدتهم على تحقيق عائد يرفع من مستوى معيشتهم.
وتشجع الحكومات التي تتخذ من الاقتصاد الحر نظاماً لها شركات القطاع الخاص وحتى العام على طرح أسهمها بالسوق المالية لتنعكس الفوائد السابقة بالإضافة إلى المساهمة بحفظ هذه الكيانات من التدهور وكذلك الزيادة بالناتج الوطني، وقد تكون النقطة الأهم في النظر إلى واقع الأسواق هي الطروحات الأولية التي تسمح هيئات الأوارق المالية بتسجيلها لإدراجها بالسوق.. ويبرز في هذا الجانب نقاط عديدة.. لكن أهمها هو التقييم الاقتصادي.. فالأسواق في الدولة الكبرى اقتصادياً يتم إدراج أي شركة بعد أن تطبق المعايير المطلوبة على اعتبار أن الاقتصاد كبير وجميع النشاطات فيه تحقق عائداً جيداً.. وتصبح القطاعات كلها تحظى بأهمية ولا يمكن اعتبارها كمالية من حيث ضرروة الإدراج.. فهي أسواق تمتلك عدداً كبيراً من المستثمرين وسيولة عالية وانفتاحاً عالمياً للاستثمار فيها ويتمتع مواطنوها بدخل كبير يسمح بتحقيق إيرادات عالية لكل القطاعات وتتحمَّل أي هزات قد تحدث إفلاسات بالسوق بينما رأت الكثير من الدراسات حول الأسواق التي تتبع اقتصاديات ناشئة أن هناك أولويات لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند كل طرح جديد.. فالأهمية تكمن بالشركات التي تمثل جوهر الاقتصاد ويعتمد عليها بشكل أساس في إيراداته وقدرته على تشغيل إعداد كبيرة من المواطنين وأن تكون تلك الشركات تستمد مزاياها من الاقتصاد الوطني نفسه.. كما أن مبدأ التمويل لتوسيع القاعدة الإنتاجية من خلال السوق المالي هو ما تحكمه أساسيات الطرح.. فحاجة تلك الدول لتنمية اقتصادياتها تنبع من توظيف المال الذي بيد المواطنين وكذلك بالقطاع المصرفي لتوسيع وإنشاء مشاريع جديدة تقوم بها تلك الشركات من خلال أقل عمليات التمويل كلفة وهي الأسواق المالية.
وإذا ما أخذنا السوق السعودي كمقياس واستثنينا الشركات الإستراتيجية والحيوية التي طرحت بالقيمة الاسمية أو بطريقة رفع رأس المال فإن التوسع بإدراج الشركات عامة الذي حدث خلال آخر ثلاث سنوات حمل معه إيجابيات وسلبيات أيضاً وإذا كانت الفوائد تتمثل بزيادة الخيارات الاستثمارية وكذلك تمثيل الاقتصاد الوطني بشركات تعمل في أهم مكوناته القطاعية ومساعدة شركات كبيرة ومهمة على تمويل مشاريعها إلا أنه أيضاً حمل سلبيات تركزت في شركات تعمل بقطاعات صغيرة وكمالية بالنسبة لاقتصادنا ولا يجب أن تحظى بأولوية حتى إلى سنوات قادمة.
وإذا كان قطاعا المصارف والبتروكيماويات يشكّلان الثقل بالسوق كونهما عصبين أساسيين باقتصادنا فإن هناك قطاعات ما زالت تغيب عن السوق كالمقاولات الذي يُشكل ما يفوق عن 5% من الناتج الوطني ومرشح لأن يتضاعف بخلاف قطاع التطوير العقاري الذي يُعتبر القطاع الثاني بالاقتصاد بعد النفط ولا يزال محدوداً ويشاركه بذلك القطاع الصحي الذي يفوق 1% من الناتج المحلي وما زال ممثلاً بعدد محدود جداً من الشركات وليس له قطاع مستقل.
بينما شكَّل الطرح الإجباري لشركات التأمين أحد أهم الإشكاليات بالسوق.. فمعروف أن الإجبار في الطروحات يكتنفه مساوئ عديدة تتمثل في غياب التقييم للكفاءة الإدارية والتشغيلية.. وهذا الجانب يحتاج لسنوات من التجربة حتى يتم الحكم عليه وقد برز ذلك بقطاع التأمين الذي شارفت بعض شركاته على الإفلاس لولا أن تمت الموافقة لها على رفع رأسمالها كإنقاذ قد يكون مؤقتاً إذا كانت العلة في الإدارة وليس بعمل القطاع.. وإذا كانت مؤسسة النقد تشترط الإدراج لتأسيس أي شركة تأمين فأعتقد من حق الهيئة أن تحدد معايير الطرح فإن أفضل الأساليب التي أثبتت كفاءتها هي الاختيار بالطرح لأنه لا يضيف إلا شركة معروفة بتاريخها.
وتأتي النقطة الأخرى أن دور مديري الاكتتاب أصبح معضلة بعد أن كان أملاً لتوافر الحلول كي تتحقق الكفاءة عند الطرح.. فوجدنا شركات تقيم بأسعار عالية ويكتنف الغموض مستقبلها وقد انعكس ذلك على أرباحها بشكل كبير فقد انخفضت أرباح بعض الشركات بنسب وصلت إلى 90 % بعد إدراجها بفترة لم تتجاوز العام التالي للإدراج بخلاف آلية تقييم الأصول ووضع الهيئة لمعيار مكرر الربحية كأولوية في تحديد سعر الاكتتاب بحيث لا يتخطى 10 مرات مقدار الربح.. ونعلم أن الأرباح عامل متغير.. بينما غاب دور القيمة الدفترية وبعض الجوانب الأخرى عن التأثير بمستوى الأسعار المحددة للطرح.. وبهذا نجد أن تقييم السعر يخضع لعلميات يتم فيها ترتيب كل الجوانب المحاسبية كي يصل الربح لمكرر يتناسب مع سعر الطرح المطلوب من مصدر الورقة المالية.. وكأننا بذلك نطبق قاعدة وضع اللحن قبل الكلمات المتبعة عند الغرب.
ونلحظ أن الكثير اعتمد على فروع لمؤسسات عالمية من خلال اتباع السمعة واتضح أن الكثير منها كان دون المستوى المطلوب بطريقة دعم السوق بأساليب تضمن جودة الطرح مع العلم أن مؤسسات محلية كثيرة نجحت بطروحات ما زالت تحافظ على أسعارها وكانت بتقييم جيد.. ولا ننسى أن المؤسسات الأجنبية تتبع كيانات عالمية كبيرة بعضها كان قريباً من الإفلاس وتتهم أخريات بأنها أحد أسباب الأزمة المالية العالمية. والغريب أن هناك كفاءات محلية عالية المستوى تستطيع أن تلعب دوراً بارزاً بخدمة السوق المالية من خلال قدرتها على تقييم الشركات المنوي إدراجها.. فلا بد من إعادة النظر بطريقة عمل الأجنبية منها وتقييم كل نشاطاتها.
ويُضاف هنا أنه لا بد من ضرورة تحميل جزء من المسؤولية لمديري الاكتتاب عند انخفاض الورقة المالية بعد طرحها ووضع الآليات التي يتم من خلالها مقاضاتها من قبل المستثمرين إذا ثبت أن هناك تضليلاً بما قدم لهم من معلومات.
أما مسالة التخارج التي ألهبت سوق الطروحات بشكل كبير فإنها لا تخدم الاقتصاد الوطني بقدر ما ينتفع منها الملاَّك المؤسسون لتلك الشركات ويخدمهم أيضاً بقاء النسبة الأكبر من ملكية الشركة معهم بعد الإدراج.. وبالتالي فإن الأموال المجمعة لا تعود على الاقتصاد بشكل مباشر بينما المطلوب أن يكون هناك أسلوب واحد يعتمد عليه الطرح.. وهو رفع رأس المال بالسوق لتأمين الأموال لمشاريع وخطط الشركة.. فكم سمعنا من شركة تنوي جمع مبلغ محدد من اكتتابها رغم أنها مطروحة بطريقة التخارج.
إن الاكتتابات وإضافة الشركات من مختلف القطاعات الحيوية للسوق المالي مسألة حيوية وتحقق فوائد لا حصر لها ولكن إعادة تقييم المرحلة السابقة في هذا التوقيت جانب مهم يتم فيه تلافي أي أخطاء سابقة وتعزيز الثقة بالسوق من خلال تقديم أفضل الخيارات الاستثمارية للمستثمرين وليس بالضرورة أن يكون لدينا كم كبير على حساب النوع.. فالسوق الأمريكي لا يوجد فيه سوى قرابة 1% من حجم المنشآت التي تعمل باقتصاده.