عند الحديث عن أمريكا، فلن تجد من يقف على الحياد، وإنما ينقسم الجميع إلى فريقين، فريق معجب بها، استنادا إلى الحريات التي يتمتع بها الفرد هناك، والتطور العلمي، والمعرفي، والاجتماعي... إلخ. ولنسمي ذلك الوجه المشرق لأمريكا. وقسم مقابل يرى فيها حكم جنرالات البنتاجون المتعطشين لبدء الحروب، ولكن لا يعرفون كيف يختمونها، وقد حدث ذلك في فيتنام، وهو يتكرر اليوم في العراق، وأفغانستان، ولنسمي ذلك الوجه الكالح لأمريكا. مؤخرا أتيحت لي فرصة قراءة أهم ما كتب حول قضية المحتال المالي بيرنارد مادوف، والذي سطا على ما يقارب من 65 بليون دولار، وفي تلك القصة تكرر ذات المشهد، من حيث إنها تبرز جانبا مشرقا (يسعد به المعجبون بأمريكا)، وجانبا آخر كالح (يسعد به أعداء أمريكا).
أولا: الوجه المشرق: مادوف يبلغ من العمر 71 عاما، ويعمل في سوق الأسهم الأمريكية منذ عام 1960، وقد بدأ عملياته الاحتيالية في عام 1991، وكان يأخذ أموال المستثمرين، وينقّلها بين حسابات مختلفة حول العالم، بحيث لا يستطيع أحد تتبعها، ولكنه يلتزم لمستثمريه بعائد مجزي، مستفيدا من أموال المستثمرين الجدد، المتلهفين لإعطائه أموالهم، وقد بنى مادوف علاقات مميزة مع السياسيين، ورجال الأعمال، بحيث أصبح في فترة رئيسا لمجلس إدارة سوق نازداك للأوراق المالية، وفي 2008/12/10، اعترف مادوف لأبنائه بأن كل عمله احتيال، وقاموا بإبلاغ السلطات الأمنية.
وبالرغم من أن هذه الحالة هي أكبر قضية احتيال في العالم من حيث حجم الخسائر (65) بليون دولار، وعدد المتضررين، إلا أن الفترة التي استغرقها النظام القضائي الأمريكي لمحاكمته، وإصدار حكم بسجنه مدة 150 عاما، في 2009/6/29، كلها تمت خلال ستة أشهر، وثلاثة أسابيع فقط، نعم قضية بذلك الحجم، بكل قضاتها وممثلي إدعائها ومحامي دفاعها ولجنة محلفيها، كل ذلك ينتهي في أقل من سبعة أشهر.
ثانيا: الوجه الكالح: حول نفس القضية، وفي عام 1999، أي قبل عشر سنوات من اكتشاف عملية الاحتيال، كان هناك رئيس رابطة المحللين الماليين في سوق نيويورك، واسمه هاري ماركوبولوس، وقد توصل إلى أنه من غير الممكن عمليا تحقيق العوائد المالية التي كان يحققها مادوف لمستثمريه، وبعد بحث وتمحيص، توصل إلى قناعة بأن العملية التي يمارسها مادوف هي عملية نصب واحتيال، وحاول تنبيه هيئة السوق المالية، ولكن الوزن السياسي والمالي لمادوف أدّى إلى تجاهل المسؤولين لتحذيرات ماركوبولوس، ومؤخرا ألّـف كتابا يقص فيه كامل قصته، تحت عنوان "لا أحـد يصغي" (No One Listens)، فصل فيه أن الأمر لم يتوقف عند تجاهل تحذيراته، بل إنه في اليوم الذي أوقف فيه مادوف، اتصل به مسؤول من السوق المالية، وقال له نحن لا نعرفك، وأنت لا تعرفنا، وفهم من ذلك أن مسؤولي السوق المالية يتوقعون منه الصمت، وإلا فسيلاحقونه، ولذلك قام بنقل جهاز الحاسب الآلي، والوثائق المتعلقة بالقضية إلى مكان آمن، لخوفه من الاستيلاء عليها، وقام بشراء سلاح له، ولزوجته، لاعتقاده أن وراء عمليات مادوف عصابات منظمة، ولكن الأسوأ من العصابات المنظمة، إن صدقت رواية السيد ماركوبولوس، هو موقف هيئة سوق المال الأمريكية.