مراكز أبحاث سياسات التعليم

31/12/2025 0
د. إبراهيم بن محمود بابللي

أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD تقريراً عام 2022 عنوانه: "Who Cares about Using Education Research in Policy and Practice"، بهدف توضيح الفجوة بين أبحاث التعليم وبين القرارات المُتخذة في قطاع التعليم وواقع تنفيذها، وطَرْح مقترحات لردم هذه الفجوة وتوثيق العُرى بين الأبحاث والقرارات. الفقرة التالية مترجمة بتصرُّفٍ من مقدمة التقرير: 

"يرغب متخذو القرار سماع إجابة سريعة شافية وافية عند طرحهم الأسئلة، ولكن الأبحاث التعليمية – التي تجيب إجابات شافية وافية – لا تعمل بهذه الوتيرة، فقد تستغرق الدراسات المسْحِيّة الميدانية – التي تعتمد عليها الأبحاث المدعومة بالأدلّة – أشهراً، إن لم تكُنْ سنيناً، لتجيب إجابة وافية على الأسئلة التي يطرحها صنّاع القرار. ومِمّا يزيدُ الطين بِلَّة وجود فجوة بين موضوعات أبحاث التعليم ومخرجاتها وبين ما يحتاجه صنّاع القرار ومنفّذيه… فنجد في كثيرٍ من الأحيان أن آلية صُنع القرار في منظومة التعليم لم تُبنَ لتكون الأبحاث رافداً رئيساً لها، خاصة القرارات اليومية.

في المقابل، نجد أن السماح بتداول أي لُقاحٍ جديد يستلزم إجراء تجارب سريرية طويلة الأجل لِيَثبُتَ نفعُ اللقاح لما طُوِّر له وانتفاء ضرره. أما في قطاع التعليم، فإن 90% من مبادرات الإصلاح لا تدُرَس فعاليتها على المدى الطويل. وعند مقارنة حجم الاستثمار البحثي في قطاع الصحة بالاستثمار البحثي في قطاع التعليم (بجميع أنواعه وليس أبحاث السياسات فقط)، نجد أن قطاع الصحة يستثمر في الأبحاث 17 ضعف حجم الاستثمار في قطاع التعليم، رغم أن ميزانية القطاعين متقاربة في الميزانيات العامة (في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية).

كان ثمن هذا الانفصال بين السياسة التعليمية والأبحاث والممارسة باهظاً، فتراجعت إنتاجية التعليم في معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.”

قد يُتَصوّر – أيها القارئ الكريم – أن أحد أسباب الانفصال الذي يتحدث عنه تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هو قلة عدد مراكز البحث المتخصصة في أبحاث سياسات التعليم في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ولكن هذا غيرُ صحيح. ومع أنه يصعُبُ الوصول إلى رقم دقيق لعدد المراكز البحثية التي تَدرُس سياسات التعليم، إلا أنها – كما يُظهِر البحث على الإنترنت وفي المراجع المتخصصة – لا تقل عن الألف، موزعة بين مراكز تابعة لمنظمات دولية (مثل: اليونيسكو)، ووزارات التعليم (مثل: المعهد الوطني لبحوث سياسات التعليم التابع لوزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان)، وجامعات مرموقة (مثل:  مركز بحوث سياسات التعليم بجامعة هارفارد)، ومراكز وطنية مستقلة (مثل: المركز الوطني لسياسات التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية)، وجمعيات متخصصة (مثل: الجمعية البريطانية لبحوث التعليم)، وجهات غير ربحية (مثل: مركز بحوث السياسات والاستراتيجية التابع للمجلس الوطني للتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية).

وفي عالمنا العربي نجد عدداً من المراكز والجهات المتخصصة، وبرامج الماجستير المُخصّصة لدراسة سياسات التعليم، مثل: مركز بحوث سياسات التعليم التابع لوكالة التخطيط والتطوير بوزارة التعليم، وكذلك برنامج ماجستير السياسات التربوية بجامعة الملك خالد، في المملكة العربية السعودية، ومجلس بحوث سياسات التعليم بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا المصرية، بالإضافة إلى عدد كبير من المراكز البحثية وبرامج الماجستير والدكتوراه التي تُعنى بشؤون التعليم العام والعالي. 

الأبحاث المنشورة عن سياسات التعليم في المملكة العربية السعودية صعبٌ إحصاؤها، لكثرتها وتنوّعِ موضوعاتها، ولكثرة الجهات التي قامت بها داخل المملكة وخارجها من جامعات ومراكزِ أبحاث وشركاتٍ وأفراد. ولكن عند تضييق نطاق البحث ليشمل العمل الأكاديمي، باستخدام قواعد البيانات مثل: أريد، والمنهل، ودار المنظومة، وسكوبوس، نجد قرابة ثمانمائة بحثا محكّم ورسائل ماجستير ودكتوراه منشورة في العشرين سنة الماضية عن سياسات التعليم في المملكة العربية السعودية، 70% منها باللغة العربية. 

علام تركّز أبحاث سياسات التعليم في المملكة العربية السعودية؟ الموضوعات والاتجاهات البحثية الرئيسة في هذه المرحلة، التي وجدناها من خلال البحث، تركز على:

•التحول من التعلّم القائم على الحفظ إلى تنمية التفكير النقدي والتعليم القائم على المهارات.

•رفع كفاءة تعليم العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات.

•تفعيل استخدام التقنية والتحول الرقمي.

•رفع كفاءة المعلمين والاستثمار في تطوير وتنمية القدرات والتدريب المستمر. 

•مواءمة مخرجات التعليم مع سوق العمل بهدف تقليل بطالة الخريجين وتعزيز ريادة الأعمال.

•توسيع تعليم الطفولة المبكرة وتحسين جودته.

•مواصلة العمل على تعليم المرأة وتمكينها، والبناء على ما أُنجِز في هذا المجال.

•ضمان الجودة والمقارنة المرجعية الدولية، باستخدام الاختبارات العالمية وأدوات محلّية مثل: معايير هيئة تقويم التعليم والتدريب.

 هذا هو التوجه الحالي، فكيف تطوّرت أبحاث سياسات التعليم في المملكة العربية السعودية في الثلاثين سنة الماضية؟ 

  نحسب أن تطور أبحاث سياسات التعليم في المملكة العربية السعودية خلال العقود الثلاثة الماضية عكس التحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري والمنهجي. فلقد تحول النهج من أبحاث وصفية ركّز كثيرٌ منها على تحليل سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية، التي أقرها مجلس الوزراء في رمضان عام 1389هـ، واقتراح مراجعتها أو مواءمتها مع متغيرات العصر، إلى أبحاث قائمة على الأدلة التجريبية، تعتمد المقارنات المعيارية، وتشدد على ضرورة التعامل مع المستجدات الاقتصادية (مثل: التنمية المستدامة)، والاجتماعية (مثل: زيادة عدد خريجي الثانوية)، والتقنية (مثل: التحول الرقمي). 

المرحلة الأولى: التسعينيات الميلادية إلى أوائل العقد الأول من الألفية 

كانت أبحاث السياسات في هذه الفترة تركّز على تعزيز الهوية الدينية والاجتماعية للطلاب، وكذلك على التحديات اللوجستية، مثل: بناء المدارس، وتوظيف المعلمين. وكانت الأبحاثُ المنشورة – إلى حد كبير – وصفيةً للممارسات والسياسات القائمة، مع اقتراحاتٍ مبدئية لإعادة النظر في السياسة التعليمية. ولم تكن تلك الأبحاث – إلى حدّ كبير – معتمدة على البيانات أو الأدلة أو المقارنات المعيارية الدولية، ولم تتطرق لقياس أثر السياسات والقرارات المتخذة بناء عليها، إلا فيما نَدَر. 

المرحلة الثانية: منتصف العقد الأول الميلادي إلى منتصف العقد الثاني من الألفية

لعل أهم ما يميّز هذه المرحلة هو الانتقال من الأبحاث الوصفية لما هو قائم إلى الأبحاث الكمّية المعتمدة على المقارنة، مع الاستعانة بالتشخيص الخارجي ونتائج التقويم التي لم تكن متاحة في المرحلة السابقة، بما في ذلك دراسات مستقلة أجرتها جهات خارجية، أو دراسات قامت بها شركات أجنبية بناء على تكليف من الجهات المعنية في المملكة العربية السعودية. كما بدأت المملكة مشاركتها في الاختبارات المعيارية العالمية، فظهرت نتائج ومؤشرات أقلقت متخذي القرار، بشكل خاص، والمهتمين بشؤون التعليم، بشكل عام، فأصبحت نتائج الطلاب في هذه الاختبارات، مثل: TIMSS و PISA أهم محفز لأبحاث السياسات.

المرحلة الثالثة: من إطلاق رؤية السعودية 2030 وحتى الآن

أهم ما ميّز هذه المرحلة، لقطاع التعليم ولغيره من القطاعات، أن أبحاث السياسات أصبحت مرتبطة صراحةً بمؤشرات الأداء الوطنية. كما زاد الاعتماد على المستشارين الأجانب بشكل كبير في هذه المرحلة، وحدثت جائحة كوفيد التي كان لها تأثيرٌ كبير على منظومة التعليم، مما جعل التركيز على التعلّم عن بعد وما يتطلبه تحقيق ذلك بنجاح، ومهارات المستقبل، والتحول الرقمي، والذكاء الصناعي في التعليم، والتعلم مدى الحياة. كما تطرقت الأبحاث لكفاءة منظومة التعليم، والخصخصة، والعائد على الاستثمار في الإنفاق التعليمي.

رغم التحولات المرحلية المشار إليها، بقيت بعض الأسئلة تحتاج إجابة، نذكر منها على سبيل المثال:

•كيف نعّلم المحتوى الُمقَرّر بفعالية، سواء كان التعليم تلقينياً أو إشرافياً؟

•ما المهارات التي يحتاجها اقتصاد المستقبل، وكيف يمكننا قياس نجاحنا في تقديمها؟ 

•ما أولويات التطوير؟ المُعَلّم، أم طريقة التعليم، أم البنية التحتية، أم غير ذلك؟ 

•هل منظومة التعليم قادرة على تلبية الطلب على التنمية الاقتصادية المستدامة المستهدفة في رؤية السعودية 2030 في القطاعات الاقتصادية المختلفة؟ وكيف نقيس قدرة المنظومة على ذلك عاماً بعد عام؟ 

الخلاصة: تمتلك المملكة مقوّمات تطوير منظومة التعليم، ومن ذلك الخبرة اللازمة للقيام بأبحاث السياسات الضرورية لإرشاد التطوير المنشود. ولعل التغيرات الجيوسياسية والاجتماعية والسكّانية والاقتصادية التي واجهتها المملكة العربية السعودية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كانت دافعاً  للجهات المسؤولة عن التعليم لتطويره، ودافعاً للمتأثرين بالتعليم – سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أو اعتباريين – لمطالبة تلك الجهات بتطوير التعليم ومساءلتها عمّا قدمت لتحقيق ذلك. ولا يشُكّ أحدٌ في أن المشاركة في الاختبارات المعيارية العالمية كانت حدثاً مفصلياً مهماً، أصبح دافعاً للإصلاح مبنياً على نتائج المؤشرات والمقارنات المعيارية. ولكننا نحسب أن منظومة التعليم، خاصة أبحاث السياسات التعليمية، بحاجة للانتقال لما يناسب المرحلة التي يواجهها قطاع التعليم، بشكل خاص، والاقتصاد السعودي، بشكل عام. 

إن الفرص المتاحة لقطاع التعليم تكمن في وجود خبرات وطنية متميزة، والدعم غير المسبوق للأبحاث المرتبطة برؤية السعودية 2030، مع زيادة التعاون الدولي، ونمو ثقافة اتخاذ القرارات القائمة على الأدلة والبيانات. ولكن تبقى بعض التحديات، من أهمها وجود فجوة بين نتائج أبحاث السياسات وتنفيذ تلك السياسات، بالإضافة إلى تفاوت القدرات البحثية بين المؤسسات الوطنية، والاعتماد الكبير على المستشارين الأجانب. 

لم تعد أبحاث سياسات التعليم مجرد نشاط أكاديمي، في العالم كله، بل هي الوقود الأساسي لتطوير منظومة التعليم. وسنعرض في المقالة التالية – بإذن الله – لسياسات التعليم وأبحاثها، وتطورها، عالمياً. 

 

خاص_الفابيتا