سوق النفط العالمي ومتاهة اللايقين

16/11/2025 0
عمر علاء

يعد سوق النفط مرآة للاقتصاد العالمي، إذ يمثل نحو 30% من مصادر الطاقة الأولية، علاوة على أنه قطاع يولد مليارات الدولارات سنوياً ويؤثر بشكل مباشر على النمو والاستقرار المالي للدول المستوردة والمصدرة على حد سواء. وفي ظل اقتصاد عالمي يسوده حالة من عدم اليقين جراء التوترات الجيوسياسية والصراعات التجارية، تزداد الضبابية حول توقعات النمو العالمي ومستقبل سوق النفط.

كما أن سوق النفط يواجه تحديات جمة تتخطى التقلبات الجيوسياسية، وتشمل التطور التكنولوجي الذي يغير هياكل الإنتاج بسرعة فائقة، والرغبة الدولية المتزايدة في التخلي عن الوقود الأحفوري لاعتبارات بيئية. كما أن السياسات الجديدة للدول المنتجة، التي تخلّت عن خفض الإنتاج الطوعي وبدأت في رفع الإنتاج تدريجياً، أضافت بُعدًا آخر من التعقيد، ومخاوف من تخمة المعروض النفطي.

وانعكست حالة اللايقين في تباين توقعات المؤسسات الدولية حول مستقبل الطلب ومستويات الإنتاج المطلوبة. هذا التباين يتجلى بوضوح بين وكالة الطاقة الدولية (IEA) ومنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وكذلك في توقعات بيوت الخبرة والبنوك الاستثمارية لسعر برميل النفط.

تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن سوق النفط العالمي سيشهد فائضًا أكبر في عام 2026، يصل إلى 4.09 مليون برميل يوميًا، أي حوالي 4% من الطلب العالمي، في المقابل تؤكد أوبك أن سوق النفط العالمية سيتوازن خلال العام المقبل، مع مواكبة العرض لحجم الطلب على النفط.

كلتا المؤسستين اتفقتا على استمرار نمو الطلب خلال العام المقبل، لكن التوقعات مختلفة، أوبك ثبتت توقعاتها لنمو الطلب في العام المقبل عند 1.4 مليون برميل يوميًا، في المقابل قدرت وكالة الطاقة الدولية حجم الزيادة في الطلب خلال 2026 عند مستوى 770 ألف برميل يومياً فقط، كما توقعت الوكالة أن يزداد العرض بشكل أسرع من الطلب، مع ارتفاع إنتاج النفط العالمي بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة.

وساهمت زيادة الإنتاج في ارتفاع مخزون النفط العالمي المرصود بمقدار 77.7 مليون برميل، في سبتمبر لتصل إلى أعلى مستوى منذ يوليو 2021. كما شهدت المخزونات العائمة زيادة بـ 80 مليون برميل.

واتخذ تحالف أوبك بلس خطوات لزيادة الإنتاج منذ أبريل 2025، ورفع الإنتاج بنحو 2.9 مليون برميل يوميا – أو حوالي 2.7% من العرض العالمي، لكنها أبطأت الوتيرة من أكتوبر وسط توقعات بحدوث تخمة المعروض النفطي التي تلوح في الأفق.

أوبك كانت تراهن على أن السوق سيستوعب هذه الزيادة، بالفعل منذ بداية العام حتى الأن وسعر خام برنت يتداول في قناة سعرية بين 60-75 دولار للبرميل معظم أيام العام، رغم إشعال العديد من الحروب التجارية والعسكرية على حد سواء، كالتوترات بين إيران وإسرائيل خلال يونيو الماضي، إلا أن النفط حافظ على استقراره النسبي.

الأبعاد الجيوسياسية حاضرة وبقوة في تشكيل مستقبل السوق، فروسيا أحد أكبر اللاعبين، تفرض الدول الغربية عقوبات صارمة على صادراتها النفطية التي تستخدم لتمويل الحرب الأوكرانية، لكن موسكو لا تقف مكتوفة الأيدي، مع استمرار صادراتها النفطية دون انقطاع، مما يشير إلى أن السوق يتجه تدريجياً نحو فائض متزايد.

لكن لماذا تتحمس أوبك لزيادة الإنتاج؟ تعوّل أكبر منظمة منتجة للنفط في العالم، على أن الطلب على الطاقة سيرتفع على المدى الطويل في الدول النامية، التي ما زال لديها هامش للنمو، وهو ما أكدته أيضاً "وكالة الطاقة الدولية" متوقعة أن الطلب على النفط والغاز قد يستمر في النمو حتى عام 2050.

وعلى مستوى القطاعات، يشهد الاقتصاد العالمي تحولات هامة خلال الفترة الحالية، فمن جانب تزداد صناعة السيارات الكهربائية في التوسع ما يقلل الطلب على مشتقات النفط المستخدمة كوقود للسيارات، إلى جانب ذلك يكرس المجتمع الدولي جهوده للتحول إلى الطاقة النظيفة، لتكون بديلاً للوقود الأحفوري (نفط-غاز طبيعي- فحم)، بهدف تقليل الانبعاثات الكربونية.

إلا أن تلك الجهود لا تتماشي مع المستهدفات المطروحة في الأجندات الدولية، كما أنها لا يمكنها أن تزيح الوقود الأحفوري كمصدر أولي للطاقة وإنتاج الكهرباء، خاصة أن الوقود الاحفوري يشكل نحو 60% تقريباً من إنتاج الكهرباء عالمياً. لكن بشكل عام تظل أجندات التحول إلى الطاقة النظيفة، والاستثمارات في طاقة الرياح والطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر عوامل هامة لفهم ديناميكيات تحرك سوق النفط.

في المقابل يعول سوق النفط على الزخم الذي خلقته ثورة الذكاء الاصطناعي، لزيادة الطلب، حيث أصحبت مراكز البيانات ضرورة ملحة لتخزين كم هائل من المعلومات التي تعالجها نماذج الذكاء الاصطناعي، وهذه المراكز تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء. لكن المفارقة أن التعويل على الذكاء الاصطناعي تكتنفه مخاطر عديدة، في ظل ازدياد المخاوف من حدوث فقاعة في قطاع الذكاء الاصطناعي بعد ارتفاع أسهم الشركات العاملة في المجال، وذلك على غرار فقاعة الدوت كوم مطلع الألفية، ما يزيد من ضبابية سوق الطاقة العالمي.

وخلال الشهر الجاري، رفعت مؤسسة مورجان ستانلي توقعاتها لسعر برميل النفط خلال عام 2026، عند 60 دولار في المتوسط، مقابل 57.5 دولار في توقعات سابقة، بينما حذر بنك باركليز من أن خام برنت قد يرتفع فوق 85 دولارًا للبرميل إذا انخفضت الصادرات الروسية بشكل حاد، وهو ما يزيد بكثير عن توقعات البنك السابقة البالغة 66 دولارًا للبرميل لعام 2026، أما بنك جولدمان ساكس فيبدو أنه الأكثر تحفظاً حول مستقبل السوق خلال العام المقبل متوقعاً في سبتمبر الماضي أن يسجل سعر البرميل 56 دولار.

لكن جولدمان ساكس رفع توقعاتها للطلب على النفط إلى الأعلى بشكل كبير، متوقعة أن يصل إلى 113 مليون برميل يوميًا بحلول عام 2040. هذه المراجعة جاءت بعد تقرير وكالة الطاقة الدولية الذي أقر بأن الطلب على النفط والغاز قد يستمر في النمو حتى عام 2050، متأثرًا بتقدم أبطأ مما كان متوقعًا لسياسات صافي الانبعاثات الصفرية، والعقبات البنية التحتية لتوسيع قدرة الطاقة المتجددة، وتباطؤ اعتماد السيارات الكهربائية. 

ختاماً، يظل النفط المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي حتى الأن،كما أن المشهد الحالي لسوق النفط يعكس لحظة انتقالية كبرى في تاريخ الطاقة العالمي. وفي ظل الرؤى المتباينة، يبقى المؤكد الوحيد هو أن اللايقين سيظل سمة أساسية لسوق النفط في العقد المقبل، وأن التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية، والمصالح الجيوسياسية، والتحولات التقنية سيحدد شكل الطاقة العالمية لسنوات قادمة.