السعودية بديل لافت للمراكز المالية الخارجية

16/11/2025 0
د. فهد الحويماني

خلال السنوات الماضية ظلّت مراكز خارجية مثل جزر كايمان وجزر فيرجن البريطانية ومن بعدها مراكز إقليمية مثل مركز دبي المالي العالمي وغيرها الوجهة المفضلة لإنشاء الصناديق الاستثمارية وهياكل الملكية للشركات، حيث يتجه إلى ذلك بعض الشركات السعودية والمستثمرين السعوديين. هذه المراكز تقدم مزايا لا تتوافر محلياً، كالمرونة التعاقدية العالية والسرعة في التأسيس ووجود نظام ضريبي محايد، إلى جانب قبول واسع لدى المستثمرين العالميين. وبالتالي أصبحت كثير من عمليات الملكية الخاصة ورأس المال الجريء والتمويل المهيكل المرتبط بالسوق السعودية تُدار عبر كيانات خارجية، رغم أن أصولها ومستثمريها ونشاطها يقع في السعودية! من هذه الزاوية نستطيع قراءة ما طرحته هيئة السوق المالية الشهر الماضي لنظام "الصناديق الاستثمارية المبسطة"، حيث إن ذلك يمثل محاولة واضحة لتغيير هذا الواقع، وإعادة جزء معتبر من تلك الهياكل إلى داخل المملكة، والعمل على جعل الرياض مركزاً مالياً عالمياً.

فهذه الصناديق الجديدة ليست بديلاً لصناديق الاستثمار التقليدية، ولا صناديق الملكية الخاصة ولا غيرها من صناديق متاحة حالياً من خلال السوق المالية، بل هي آلية تنظيمية جديدة تقدم للمؤسسات المالية ومديري الأصول المحليين والدوليين مرونة أكبر بكثير مما كان متاحاً سابقاً. فيما يخص مديري الأصول الخارجيين، فالمشروع يسمح لمن لديه ترخيص لمزاولة الأوراق المالية خارج المملكة بإنشاء صناديق مبسطة داخل السعودية، وهو تغيير جوهري يفتح الباب لأول مرة أمام مديري الأصول العالميين لتأسيس صناديقهم في الرياض بدلاً من جزر الكايمان أو غيرها، ما يعني أن النموذج الجديد يقترب في خصائصه من المزايا التي تتمتع بها جزر الكايمان ولكسمبورج ودبي وغيرها.

 الصندوق المبسّط يمكن إنشاؤه بإشعار "بسيط" للهيئة، لا بضوابط وشروط الصناديق المعتادة ولا بقواعد الالتزام الصارمة الخاصة بها، بما في ذلك عدم الحاجة إلى أمين حفظ وغير ذلك من اشتراطات. كما يمكن تصميم بنوده التعاقدية بحرية بين المدير والمستثمرين، وإصدار فئات متعددة من الوحدات، والاستفادة من آلية المنشآت ذات الأغراض الخاصة لعزل الأصول والالتزامات، وهي جميعها سمات كانت سبباً رئيساً لانتقال كثير من الأعمال إلى الخارج. الفارق هنا أن الإطار الجديد يعمل داخل بيئة تنظيمية سعودية عالية الحوكمة، وتحت رقابة هيئة السوق المالية، وهذه قد تعد عوامل جذب مهمة لم تكن جاهزة ولا ناضجة طيلة السنين الماضية.

 ومع ذلك، المنافسة ليست هينة، فالسعودية لا تتنافس حالياً مع جزر الكايمان في مجال الضرائب أو الحياد التقليدي، فهي لا تستهدف أن تكون ملاذاً ضريبياً، لكنها تقدم مزايا لا يمكن أن توفرها كايمان مهما حاولت، وأول ذلك الوصول المباشر لرأس المال السعودي، وهو الأكبر والأكثر نشاطاً في المنطقة، ويضم الصناديق الحكومية، والكيانات شبه الحكومية، والبنوك، وشركات التأمين، والمجموعات العائلية الكبرى، لذا فإن المدير العالمي الذي يختار تأسيس صندوقه في الرياض يرسل إشارة قوية عن التزامه بالسوق المحلية، الأمر الذي يعزز ثقة المستثمرين السعوديين ويزيد فرصه في الحصول على تمويلات أو شراكات إستراتيجية.

 الفائدة الثانية لهذه الصناديق الجديدة هي القرب من الفرص، فالصندوق المؤسس في السعودية يستطيع المشاركة بصورة أفضل في الفرص المرتبطة ببرامج التحول الوطني ورؤية 2030، سواء كانت في البنية التحتية أو الملكية الخاصة أو الائتمان الخاص أو ما قبل الطروحات أو الشركات الصغيرة والمتوسطة. أما الصندوق القائم في كايمان فلا يمنحه الموقع ولا البنية التنظيمية أي أفضلية في الوصول إلى هذه الفرص أو إدراك أهميتها أو التفاعل مع الجهات المعنية بها.  

كما أن البيئة التنظيمية الدولية اليوم تتجه نحو تضييق الخناق على "الهياكل الورقية" في المراكز المالية الخارجية، فهناك متطلبات جديدة ومعايير إفصاح معينة وضغوط أوروبية وأمريكية تجعل من الضروري أن تتمتع الكيانات الاستثمارية بوجود اقتصادي حقيقي، لا مجرد عنوان قانوني في جزيرة بعيدة! وبذلك تبرز السعودية كخيار أكثر ملاءمة، حيث توجد مقومات "الجوهر الاقتصادي" الفعلي، من مكاتب قائمة وموظفين وعمليات تشغيلية وسوق محلية ضخمة وتفاعل تنظيمي مباشر. هذا يمنح الهياكل المنشأة داخل المملكة استدامة أكبر ومصداقية أعلى مقارنة بالهياكل الخارجية التي أصبحت تخضع لنظرة دولية أكثر تشككاً وصرامة.

الصناديق المبسطة إذاً ليست مجرد تحديث تنظيمي، بل خطوة إستراتيجية ضمن سعي المملكة لتحويل الرياض إلى مركز مالي إقليمي، ولجعل هياكل الاستثمار المرتبطة بالسوق السعودية تُدار من داخلها لا من خارجها، فهي تقدم للمستثمر المحلي والدولي بيئة تجمع بين المرونة التعاقدية التي كانت محصورة في المراكز الخارجية، والحوكمة والتنظيم والمكانة الاقتصادية التي لا يمكن أن توفرها سوى سوق ضخمة ومؤثرة مثل السوق السعودية، لتصبح الرياض بديلاً واقعياً وجاذباً للهياكل الخارجية، ليس بمجرد نسخ نموذج جزر الكايمان، بل بتقديم بيئة تنظيمية قوية وسوق ضخمة وفرص قد لا تتكرر.

 

نقلا عن الاقتصادية