اعداد النخبة بين الإهمال المريح والصعب

02/11/2025 0
فواز حمد الفواز

اعداد النخبة في الدول الطامحة لتنمية حقيقية طويلة المدى بهدف المنافسة العالمية أمرا مركزي الدور، بل بدونه يصعب التفكير في سعة وكفاءة الأجهزة العامة المناط بها أدوار الإدارة، والبحث والتفكير والتنفيذ لبرامج معقدة ومتغيره لتواكب التغيرات الاقتصادية والتقنية والعلمية من ناحية، وتكون قادرة وواثقة على المراجعة والنقد من ناحية أخرى. 

حاولت المملكة التعامل مع هذا الموضوع العام، من خلال "هجمة" تعليمية عامة وتدريبية أحيانا في فترات مختلفة، لكن دون دقة وفرز وتنافس من ناحية، أو علاقة وثيقة موثقة بالأعمال ورصد للإنجازات والمهارات. لذلك هناك فجوات واضحة وصعوبات في التنفيذ وضعف في التراكم المعرفي. 

سدت المملكة الفجوة من خلال ثلاث نواحي، الأولى نشر التعليم الجامعي وما تبعه من تساهل في القبول، وبالتالي خلط غير متجانس وتهرب من التعليم الفني. الثانية سيل من البعثات خاصة في عقد السبعينات حيث كنت أحد المستفيدين، ثم سيل آخر في العقد الأول من هذا القرن حيث زاد التركيز على المرأة وحتى التساهل في القبول!. الثالثة، النهج الاختياري الذي يمارس حسب كفاءة ووعي المسؤول المباشر. لذلك انتهت البلد بخليط غير متجانس معرفيا وأحيانا بكفاءة عالية ولكنها مقطوعة التواصل وأحيانا محدودة الكفاءة وأحيانا بمراهنة على علاقات مجتمعية أو مسلحة بلباقة اجتماعية.

 أحد أوجه التحدي أن لا أحد يرغب في الاستقالة، لأن الوظيفة العليا العامة مربحة في التمركز المعنوي وغالبا بمردود عالي ماليا، مع ضبابية في المساءلة لأسباب غالبا عملية كلما زادت أعدادهم. عدم الاستقالة له تأثير في التعاقب الإداري على أكثر من صعيد، فمن ناحية العلاقة بين القطاعين العام والخاص لا تتغير كثيرا، ومن ناحية أخرى الكثير من الكفاءات تفقد الفرصة. الإشكالية أن نقطة البداية هي الأصعب لأهداف سامية للجميع ولكنها بعيدة. تنفيذ الخطوة الأولى غريب على المجتمع العربي لأنه ترتب على مفهوم سطحي للتعليم، وخاصة في علاقته مع الاقتصاد التنموي من ناحية، ورغبة الحكومات في إرضاء أكبر عدد ممكن دون فرز في الجدارات- قوى تغذي بعض. 

أظن نقطة البداية، أن نصر على قبول أعلى 30% في اختبار وطني لخريجي الثانوية العامة. ومن اختار تعليم خاص أو في الخارج يخضع لتقييم آخر للوصول للطبقة التكنوقراطية. ويتم توجيه البقية لتعليم فني أكثر فاعلية برفع رواتب الخريجين منه ومساواة أكثرهم بخريجي أغلب الجامعات اليوم، لكي لا يحسوا بانتقاص مجتمعي من ناحية وترغيب عملي لتطوير المجتمع. قد يكون من عوامل الترغيب وأيضا لأسباب عملية أن يخصص 80% من مقاعد الكليات العسكرية لخريجي كليات التعليم الفني. تعليم الظابط فنيا يفيده آنيا وفي حياة عملية لاحقا لأن الخدمة العسكرية أحيانا قصيرة. فبدون تنمية المهارات الفنية لن يكون هناك اقتصاد حديث ودون فرز تكنوقراطي لن يكون هناك كفاءة في خيارات وتنفيذ السياسات العامة.

كذلك لابد من معاهد لبعض الوظائف والأدوار لمن لا يرغب في تعليم بعد المرحلة المتوسطة، لأن السلسلة الاقتصادية يجب أن تشمل الكل. تأجير الوافدين أحد الحلول الجزئية، ولا أدعو للاستغناء عنهم ولكن هناك فرق واضح بين توطين الكفاءة وشرائها المؤقت. أحد أهم الفوارق أن رصد الإنتاجية والبناء المعرفي التراكمي يصبح ضحية.

قامت المملكة بجهود وصرفت الكثير ولكن دون تجانس وتراتبية علمية وعملية. فمثلا كان تأسيس معهد الإدارة محطة مهمة في وقته، والبعثات محطة أخرى، وتميز جامعة البترول محطة أخرى، وجامعة الملك عبدالله في ثول محطة أخرى وتأسيس كلية الإدارة العامة في "كابسارك" خطوة أخرى و ليست الأخيرة، عدى برامج تدريب مؤثرة مثل برنامج بنك "تشيس منهاتن" في الصندوق الصناعي أو تدريب بنك "جي بي مورقان" في البنك المركزي، حيث كنت ربما أول المستفيدين. وثمة برامج فنية للكثير من الصناعات التخصصية. ربما أجمع هذه المحطات لخدمة مرحلة محددة، ولكننا اليوم أمام مرحلة جديدة بعد أن أسسنا لقاعدة عريضة. لذلك لابد من فرز أكثر دقة علميا ومعرفيا لمرحلة أكثر تنافسية عالميا. تنفيذ هذه الخطوات هو بداية سلم الإنتاجية- التي هي محرك النمو الاقتصادي الأول. 

 

خاص_الفابيتا