مع صدور البيان التمهيدي لميزانية العام 2026م، تتجلى ملامح قصة جديدة من قصص الريادة السعودية، حيث يلتقي التخطيط المحكم بالشفافية العالية، وتلتقي الإدارة المالية الرشيدة بالقدرة على التوازن بين الطموح والحكمة، في مشهد اقتصادي يثبت أن الرؤية لم تكن مجرد شعارات، بل مشروع دولة يتجسد في الأرقام والمؤشرات والإنجازات، فالبيان التمهيدي لم يأت لعرض أرقام مجردة أو توقّعات محاسبية باردة، بل ليؤكد أن الاقتصاد السعودي يسير وفق مسار متين وراسخ، رغم الاضطرابات العالمية التي تسيطر على المشهد الاقتصادي، ففي عالم تتسارع فيه المخاطر الجيوسياسية وتتقلب أسواق السلع وتتعقد سلاسل الإمداد، يثبت الاقتصاد السعودي مرونته العالية وقدرته على التكيف، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نمواً بنسبة 3.6% خلال النصف الأول من 2025م، مدفوعاً بالأنشطة غير النفطية التي ارتفعت بنسبة 4.8% لتصل مساهمتها إلى 55.6%، وهو أعلى مستوى تاريخي منذ انطلاق رؤية 2030، في إشارة واضحة إلى أن جهود التنويع الاقتصادي لم تعد حلماً بعيد المنال، بل واقعاً متحققاً.
وفي قلب هذه المسيرة، تبرز الاستدامة المالية كحجر الزاوية في السياسات الحكومية، حيث تعمل المملكة على مراجعة أولويات الإنفاق، موجهة الموارد نحو المشاريع ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي الأكبر، دون أن تمس بجودة الخدمات الأساسية التي تمس حياة المواطن، فالمواطن يظل محور التنمية وغايتها، وما يميز هذه المرحلة أن الحكومة تمسك بزمام التوازن الدقيق بين ترشيد الإنفاق وحماية رفاهية المجتمع، وهو ما يعكس نضج القرار واحترافية الإدارة المالية، وما يزيد المشهد قوة أن الحكومة تنتهج مرونة عالية في إدارة الإنفاق، بحيث تستطيع أن تسرّع وتيرة الصرف أو تُبطئها بحسب الحاجة، دون أن يؤثر ذلك على استقرار الاقتصاد الكلي، هذه القدرة على التكيّف مكّنت المملكة من مواجهة التباطؤ العالمي وتحويل التحديات إلى فرص للنمو، في وقت عانت فيه اقتصادات أخرى من اختلالات وضغوط مالية، ويمتد هذا النهج المرن إلى العلاقة مع القطاع الخاص، الذي جعلته الرؤية محركاً رئيساً للنمو الاقتصادي، فالوفاء بمستحقات الشركات وتطوير بيئة أعمال تنافسية ومحفزة أسهما في تعزيز الثقة، وجذب استثمارات نوعية عززت مكانة المملكة كوجهة مفضلة للمستثمرين محلياً ودولياً، الأرقام تؤكد هذه الحقيقة، إذ سجل الاستثمار الخاص نمواً بنسبة 4.6% في النصف الأول من 2025م، فيما واصل الاستهلاك الخاص ارتفاعه بنسبة 3.5% مدفوعاً بتحسن سوق العمل وانتعاش قطاعات التجارة والضيافة، وهو ما يبرهن أن الإصلاحات انعكست على حياة الناس اليومية، ولم تبق حبيسة النصوص.
وعلى صعيد المالية العامة، جاء البيان التمهيدي ليكشف عن توقع تسجيل عجز في ميزانية 2026م يبلغ 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو عجز محسوب بدقة، يعكس سياسة توسعية تستهدف تحفيز النمو وتسريع التحول الاقتصادي، لا ضعفاً أو خللاً هيكلياً، ومع ذلك تواصل المملكة الحفاظ على مستويات آمنة من الدين العام، وتنوع أدوات تمويلها بين الصكوك والسندات والقروض، إضافة إلى التوسع في التمويل البديل للمشاريع الكبرى، هذه الإدارة الرشيدة جعلت وكالات التصنيف الائتماني الكبرى تثبّت تصنيف المملكة عند مستويات متقدمة مع نظرة مستقبلية مستقرة، وهو دليل على قوة المركز المالي واحترافيته، أما الإيرادات، فقد أظهرت الإصلاحات الهيكلية أثرها بوضوح، إذ يُتوقع أن تصل إلى 1,147 مليار ريال في 2026م، بزيادة نسبتها 5.1% عن العام السابق، بينما تستمر الإيرادات غير النفطية في الصعود لتشكل 40% من الإجمالي، مقارنة بـ27% في 2015م. هذه القفزة النوعية تعني أن المملكة لم تعد رهينة تقلبات النفط وحده، بل صارت تمتلك قاعدة أوسع للنمو وأكثر استدامة، وفي المقابل، يُتوقع أن تبلغ النفقات 1,313 مليار ريال، وهو إنفاق مدروس يوازن بين متطلبات التنمية وتحديات المرحلة، مع الحفاظ على المرونة الكافية لمواجهة الصدمات الاقتصادية دون التراجع عن المشاريع الاستراتيجية.
وفي عمق هذه الأرقام، يظل البعد التنموي حاضراً بقوة، فالرؤية تدخل في العام 2026 مرحلتها الثالثة، مرحلة مضاعفة الإنجاز وتعظيم الأثر، هنا لم تعد الأولوية للتخطيط أو التأسيس، بل للتنفيذ وتسريع وتيرة المشاريع العملاقة التي تعزز جودة الحياة وتحقق تنمية شاملة ومتوازنة بين مختلف المناطق، وقد انعكس هذا المسار بوضوح في مؤشرات سوق العمل، حيث انخفضت البطالة بين السعوديين إلى 6.8%، وارتفعت مشاركة المرأة إلى 34.5%، وهو ما يعكس تحولاً اجتماعياً واقتصادياً متكاملاً، هذه الإنجازات لم تأت بمعزل عن العالم، بل جاءت رغم تزايد المخاطر التي يواجهها الاقتصاد العالمي، من حروب تجارية وتوترات جيوسياسية وتقلبات في الطلب على النفط، ومع ذلك، لم تتردد المملكة في الإفصاح عن هذه المخاطر في بيانها التمهيدي، مؤكدة أن الشفافية ركن أصيل في إدارتها المالية، وأن مواجهة التحديات تبدأ بالاعتراف بها، لا تجاهلها، هذا النهج يزيد من ثقة المواطنين والمستثمرين على حد سواء، ويجعل من الاقتصاد السعودي نموذجاً يُحتذى به في الوضوح والصدق في الطرح.
ولأن رؤية 2030 لم تكن مجرد برنامج اقتصادي بل مشروع وطني شامل، فقد انعكست ثمارها على مختلف القطاعات، من السياحة التي تحولت من عجز مزمن إلى فائض بلغ 49.8 مليار ريال في 2024م، إلى الصادرات غير النفطية التي ارتفعت بنسبة تقارب 95% خلال أقل من عقد، وصولاً إلى نمو الأنشطة غير النفطية إلى 2.6 تريليون ريال في 2024م، وهو أعلى مستوى تاريخي على الإطلاق، هذه التحولات لا تعكس أرقاماً مالية وحسب، بل قصة نجاح متكاملة، تروي كيف استطاعت المملكة أن تحوّل مواردها إلى فرص، وأن تستثمر موقعها وإمكاناتها لصناعة اقتصاد حيوي متنوع يكتب فصول الريادة على المستوى الإقليمي والدولي، إن البيان التمهيدي لميزانية 2026م ليس مجرد وثيقة مالية، بل شهادة عملية على أن المملكة تمضي في طريقها بثقة ووضوح، وأن ما بُني خلال العقد الماضي لم يكن إلا البداية لمسار أطول وأعمق، فالرؤية التي وُلدت في 2016م لم تكن حلماً مؤجلاً، بل مشروعاً حاضراً يتجسد في مؤشرات النمو، وفي ثقة المؤسسات الدولية، وفي جودة حياة المواطن، وفي طموح لا يعرف المستحيل.
هكذا، يكتب الاقتصاد السعودي فصلاً جديداً من قصة الرؤية، قصة وطن يملك الإرادة ليقود التغيير، والإدارة ليحقق التوازن، والشفافية ليكسب الثقة، والطموح ليصنع المستقبل، إنها السعودية 2026، حيث الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل سردية وطنية تصنعها الرؤية وتكتبها الأجيال، لتصبح مثالاً يحتذى به في المنطقة والعالم.
نقلا عن الرياض