حماية المستثمر أساس ازدهار الأسواق: نموذج قضية “دار الأركان"

01/10/2025 1
د. خالد بن سعد الحبشان

في جميع التجارب العالمية للأسواق المالية، تظل حماية المستثمر حجر الزاوية الذي تُبنى عليه الثقة وتُرسم به ملامح العدالة، فمن دون منظومة صلبة تضمن حقوق المتعاملين وتردع الممارسات المخالفة، يفقد السوق جاذبيته ويصبح بيئة طاردة لرؤوس الأموال. ومن هنا تأتي أهمية القرارات التي تصدرها الهيئات الرقابية حين تعيد التوازن إلى الكفة، وتثبت أن العدالة لا تُفرَّط فيها مهما طال الوقت أو تعقَّدت القضايا. وفي هذا السياق تبرز قضية دار الأركان التي شكّلت واحدة من أبرز المحطات في مسيرة السوق المالية السعودية، حيث لم تكن مجرد واقعة تداول تخللتها مخالفات، بل تحولت إلى نموذج حي لكيفية حماية المستثمر وتطبيق القانون بأقصى درجات الحزم والشفافية.

القضية بدأت بين عامي 2017 و2018 عندما ارتكب عدد من المستثمرين ممارسات غير مشروعة تمثلت في إدخال أوامر بيع وشراء تهدف إلى التأثير على سعر السهم وسعر الإغلاق، وهي ممارسات تصنف قانونياً باعتبارها تلاعباً واحتيالاً. هذه التصرفات لم تؤثر على السهم فحسب، بل ألحقت الضرر بعدد من المتداولين الذين اتخذوا قراراتهم الاستثمارية بناءً على معطيات مضللة. ومع ذلك، لم يمر الأمر مرور الكرام، إذ تحركت هيئة السوق المالية والنيابة العامة ولجان الفصل لتقود واحدة من أكبر قضايا السوق، وتنتهي في يوليو 2023 بصدور قرار قطعي يلزم المتورطين بدفع ما يقارب 1.2 مليار ريال لتعويض المتضررين.

ما يميز هذا النموذج أن التعويض لم يكن إجراءً شكلياً، بل آلية دقيقة تمت عبر صندوق تعويض خاص أُنشئ للمرة الأولى بهذه الصورة، حيث جرى استخدام السجلات التقنية لتحديد المستثمرين الذين لحق بهم الضرر بشكل دقيق، ثم وُزعت المبالغ عليهم وفق حجم الخسائر الفعلية. بعض المتضررين وصل نصيبهم من التعويض إلى أكثر من مليون ريال، وهو ما يعكس جدية القرار وعدالته. والأهم من ذلك أن الهيئة فتحت المجال أمام أي مستثمر يرى أنه لحق به الضرر ولم يُدرج اسمه، ليتقدم بدعوى فردية بعد تقديم شكوى رسمية، مما يعني أن العدالة لم تقتصر على من شملتهم خطة الصرف، بل أبقت الباب مفتوحاً أمام كل ذي حق.

هذه الخطوة تحمل أكثر من دلالة. فهي أولاً تعزز الثقة في السوق السعودية وتؤكد أن هناك آليات متقدمة لرصد الممارسات المخالفة ومعالجتها حتى بعد مرور سنوات. وهي ثانياً ترسل رسالة رادعة إلى كل من تسول له نفسه العبث بعدالة السوق، بأن العواقب لن تكون مجرد غرامة محدودة، بل إلزام بإعادة المكاسب غير المشروعة وتعويض المتضررين بالكامل. وهي ثالثاً تُبرز نضج البنية الرقابية والتشريعية للسوق، بما يتماشى مع طموحات المملكة في جعل سوقها المالية مركزاً إقليمياً وعالمياً ضمن مستهدفات رؤية 2030.

إن حماية المستثمر ليست مجرد شعار يُرفع في البيانات الرسمية، بل ممارسة فعلية تتجلى في قرارات كهذه. فالسوق المالية بطبيعتها قائمة على الثقة، والمستثمر عندما يضخ أمواله يريد أن يطمئن إلى أن قراراته ستبنى على بيانات صحيحة، وأنه في حال تعرضه لمخالفة أو تلاعب فهناك جهة تحميه وتعيد له حقه. وكلما ارتفع مستوى هذه الحماية، ارتفع معها حجم السيولة الداخلة إلى السوق، وتوسعت قاعدة المستثمرين المحليين والأجانب، وهو ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد الوطني ككل.

قضية “دار الأركان” إذن ليست مجرد ملف قانوني أغلق بصدور حكم وتنفيذ تعويضات، بل هي علامة فارقة تؤكد أن السوق السعودية تتحرك بخطوات واثقة نحو أعلى معايير العدالة والشفافية. لقد أثبتت التجربة أن المكاسب غير المشروعة لا تدوم، وأن حماية المستثمر ليست خياراً ثانوياً بل ضرورة وجودية لاستمرار أي سوق. ومن هنا يمكن القول إن ما حدث يمثل نموذجاً يحتذى به ليس فقط محلياً بل أيضاً إقليمياً، حيث قلما نشهد في أسواق المنطقة قرارات بهذا الحجم من الجرأة والفاعلية.

إن بناء سوق مالية عادلة وشفافة يتطلب يقظة دائمة وتعاوناً بين الجهات الرقابية والمستثمرين، وقد أثبتت السعودية عبر هذه القضية أن لديها القدرة على حماية حقوق المتعاملين بكفاءة وصرامة. فحين يعلم المستثمر أن حقوقه محفوظة وأن العدالة ستلاحق أي تلاعب أو احتيال، فإنه يضخ أمواله بثقة، وحينها يتحول السوق من مجرد منصة للتداول إلى رافعة اقتصادية تعكس قوة الدولة وتوجهاتها. ولعل قضية “دار الأركان” ستبقى شاهداً على أن العدالة قد تتأخر لكنها لا تغيب، وأن حماية المستثمر ستظل الأساس الذي تبنى عليه أسواق الغد

 

 

خاص_الفابيتا