كيف يتوقف التقدم؟

17/09/2025 0
د. عبدالله الردادي

لعقود طويلة، كان الغرب هو الداعي إلى سياسات الأسواق المفتوحة، وزعم طيلة هذه المدة أن هذه السياسات هي التي تدعم الانفتاح والابتكار وازدهار العالم، وبالطبع كانت الولايات المتحدة هي قائدة هذا التوجّه، ولكن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً في معالم السياسات الاقتصادية والصناعية، وهنا أيضاً كانت الولايات المتحدة هي قائدة هذا التوجّه الذي يميل إلى التدخل المباشر في السوق، عبر فرض رسوم جمركية أو ضخ استثمارات حكومية في شركات محددة. وليست أوروبا ببعيدة عن ذلك، فقد عاد الحديث هناك عن ضرورة حماية الصناعات الوطنية وضبط سلاسل الإمداد. والمبرر لكل هذا التغيّر هو المنافسة المتصاعدة مع الصين وازدياد حدة المنافسة في التقنيات الاستراتيجية، مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الخضراء. وبرز سؤال في خضم هذا التحول: هل يقود هذا النهج إلى نهضة جديدة في الابتكار، أم إلى فترات من الركود والتباطؤ؟

طُرح هذا السؤال من قبل الاقتصادي كارل بنيديكت فري في كتابه الجديد المعنون «كيف يتوقف التقدم: التقنيات والابتكار ومصير الأمم؟»، وقدم الكاتب رؤية نقدية تربط بين التاريخ والسياسات الراهنة. وأطروحة الكاتب تتمثل بوضوح في أن التقدم ليس أمراً حتمياً، بل هو نتيجة لتوازن دقيق بين قوى الدولة المركزية، وديناميكية السوق الحرة، فالدول قادرة على حشد الموارد وتوسيع نطاق التقنيات القائمة، بينما تتيح السوق المنافسة والتجريب، وتُولّد مسارات جديدة، وأن الخلل في هذا التوازن قد يفضي إلى فوضى أو إلى بيروقراطية خانقة تعوق الابتكار... ومن هنا، فإن التوازن المطلوب هو التوفيق بين دور الدولة والسوق وفق معطيات العصر.

ولضرب أمثلة على ذلك، دعم الكاتب أطروحته بسلسلة من القصص التاريخية؛ فإبان فترة حكم أسرة سونغ للصين بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلاديين، شهدت الصين نهضة صناعية غير مسبوقة، في مجالات كالورق والطباعة وبناء السفن، لكنها سرعان ما تراجعت مع ترسخ قبضة البيروقراطية المركزية وتراجع هامش التجريب، ومن ضمن ذلك كانت السياسات الداعية إلى تنظيم استخدام موارد الغابات بمنع قطع الأشجار جزئياً. والخشب هو المادة الخام لجميع المجالات التي تفوقت فيها الصين آنذاك، فشهدت السنوات التالية لهذه السياسة تراجعاً حاداً لتنافسية الصين في هذه المجالات. وقد كتب الكاتب الأميركي فريد زكريا عن هذه القصة في كتابه الشهير «العالم بعد أميركا» الصادر في عام 2008 محذراً الولايات المتحدة من الوقوع في هذا الفخ.

على النقيض من هذه القصة، شهدت أوروبا انطلاقة الثورة الصناعية بفضل التفتت السياسي والتنافس بين الدول والمدن، وهو ما خلق بيئة محفزة للتجديد، غير أن بريطانيا وبعد أن بلغت أوجها، وقعت في فخ ما تسمى «المصالح الراسخة»، التي قاومت دخول تقنيات جديدة بسبب مصالح كبريات الشركات في السوق، فتراجعت مكانتها لمصلحة الولايات المتحدة وألمانيا.

ويستمر الكاتب في ضرب الأمثلة، ولكن هذه المرة باليابان بعد الحرب العالمية الثانية التي مثلت نموذج اليد القوية للدولة، حيث تمكنت البيروقراطية من توجيه التصنيع وتسريع اللحاق بالتقنيات العالمية، لكن من دون أن تفتح مسارات ابتكارية جديدة مستقلة.

وأخيراً، وفي الولايات المتحدة، ظهر «وادي السيليكون» تجسيداً لبيئة تسمح بالمخاطرة والانفتاح. لكن فري كذلك حذّر بأن الشركات العملاقة قد تتحول اليوم إلى قوى احتكارية تقيّد ديناميكية السوق، ويذهب فري إلى أبعد من ذلك ليحلل دور الحروب الكبرى، فالحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، أطلقت موجة ابتكارات هائلة نتيجة حشد موارد الدولة، غير أن هذه القفزات لم تكن مستدامة، وجاءت مصحوبة بكثير من أوجه عدم الكفاءة. وهنا يخلص الكاتب إلى أن النزاعات قد تنتج طفرات تقنية سريعة، لكنها ليست وصفة لبناء بيئة صحية للابتكار طويل الأمد.

إن أبرز ما خرج به فري في كتابه أن تقدم الأمم قد يأتي من مسارات مختلفة وفق حيثيات الزمن والدول، وأن مسارات الابتكار والتقدم ستظل رهينة قدرة الدول على الحفاظ على التوازن الدقيق بين المركزية واللامركزية، دون وجود مثال تاريخي واضح يعطي دلالة صريحة على مقدار هذا التوازن، فدور الدولة مطلوب لبناء البنى التحتية ودعم التصنيع، ولكن دون دور السوق المفتوحة والمنافسة الحرة لن تنشأ أفكار جديدة، والمخاطر التي يواجهها العالم اليوم سبق لحضارات سابقة أن واجهتها، ومنها احتكار الشركات الكبرى، والجمود البيروقراطي، والانغلاق الفكري... وفي حال لم تتجاوز الدول هذه العقبات، فقد يتحوّل العالم إلى ركود طويل وتباطؤ للتطور التقني، بخلاف ما هو معتقد حالياً، وهو أن تسارع الابتكار أمر حتمي!

 

نقلا عن الشرق الأوسط