على مدى عقدين من الزمن، جرى التعامل مع الهند في الغرب باعتبارها الرهان الكبير على مستقبل آسيا. فالعواصم الغربية، من واشنطن إلى بروكسل، كانت ترى في نيودلهي البديل الموثوق لبكين، وقوة صاعدة يمكن أن توازن النفوذ الصيني وتفتح أسواقاً جديدة أمام الاستثمارات والتجارة. وفي المؤتمرات الدولية، كان يُشار إلى الهند بوصفها «الديمقراطية الكبرى» القادرة على لعب دور صلب في النظام العالمي، وهي بالفعل أكبر بلد ديمقراطي من ناحية عدد السكان. أما في خطابات البيت الأبيض، فكثيراً ما صُوِّرت كشريك لا غنى عنه. غير أن هذا المشهد المفعم بالتفاؤل بدأ يتبدد سريعاً مع تصاعد توتر غير مسبوق بين واشنطن ونيودلهي، توتر يهدد بالتحول إلى حرب اقتصادية قد تغيّر وجه العلاقة بين البلدين.
الشرارة التي أشعلت الأزمة جاءت من واشنطن، حين أعلنت الإدارة الأميركية قرارها مضاعفة الرسوم الجمركية على الصادرات الهندية لتصل إلى 50 في المائة، وهو أحد أعلى المعدلات في تاريخ العلاقات التجارية بين البلدين. هذا القرار لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل بدا وكأنه رسالة سياسية قاسية؛ إذ بررته واشنطن بإصرار الهند على مواصلة شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة، رغم العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وفجأة وجدت الهند نفسها متهمة بتمويل حرب أوكرانيا، فيما هي تؤكد أن تلك الواردات لا تعدو كونها ضرورة اقتصادية تفرضها حاجات 1.4 مليار إنسان إلى الطاقة بأسعار معقولة.
هذا التحوّل ليس هيّناً على الهند؛ فالولايات المتحدة أكثر من مجرد شريك تجاري عادي؛ فهي السوق الأكبر للصادرات الهندية؛ إذ بلغت قيمة الصادرات إليها أكثر من 87 مليار دولار في عام واحد فقط. ومع الرسوم الجديدة، تُهدد قطاعات كاملة بالانهيار، بدءاً من مصانع النسيج إلى ورش صقل الألماس وصولاً إلى مزارع الروبيان على السواحل الشرقية، فجأة باتت آلاف المصانع مهددة بالإغلاق وملايين الوظائف على المحك، في حين بدأ المشترون الأميركيون يحولون عقودهم إلى منافسين، مثل فيتنام وبنغلاديش، يملكون ميزة سعرية بعد أن أصبح المنتج الهندي أغلى وأكثر تكلفة. لكن خلف الجوانب الاقتصادية تختبئ قصة أكثر تعقيداً تتعلق بالسياسة وبالعلاقات الشخصية؛ فالعلاقة التي جمعت الرئيسين ترمب ومودي بدأت بأجواء احتفالية. وفي اللقاءات الأولى، كانت الابتسامات العريضة والحديث عن «الصداقة التاريخية» هي السمة الغالبة، غير أن تلك الأجواء سرعان ما تبددت، حين بدأ ترمب يكرر في خطاباته أن وقف النزاع الأخير بين الهند وباكستان كان إنجازاً شخصياً له ولإدارته، بل ألمح إلى أن ترشّحه الهند لجائزة «نوبل للسلام»، وهو ما أثار حفيظة مودي الذي أراد أن يُنسب «النصر» إلى قراراته وسياساته الداخلية، ومع تراكم الخلافات حول النفط الروسي والتجارة، لم يبقَ من دفء العلاقة شيء، بل تحولت إلى مصدر متزايد من التوتر والاتهامات المتبادلة.
تشعر الهند بأنها استُهدفت بشكل غير عادل؛ فهي ليست الدولة الكبرى في شراء النفط الروسي، ولا الوحيدة التي تحافظ على علاقات اقتصادية مع موسكو؛ فحتى أميركا والاتحاد الأوروبي يملكون علاقات تجارية مع روسيا، ولكن الهند هي الدولة الوحيدة تقريباً التي عوقبت برسوم عقابية بهذا الحجم، هذا الشعور بالازدواجية دفع نيودلهي إلى رفع خطاب السيادة والاستقلالية الاستراتيجية، مؤكدة أنها لن تسمح لأحد بفرض قرارات على خياراتها الوطنية. ومع تصاعد الغضب الشعبي ضد ما يُنظر إليه كتدخل أميركي، وجدت الحكومة نفسها مضطرة لتبني لهجة أشد حدة، في الوقت الذي تسعى فيه لتقليل أثر الأزمة عبر البحث عن شركاء بديلين.
في خضم ذلك، برزت تحركات هندية لافتة؛ فاتّجه مودي شرقاً إلى طوكيو لتعزيز التعاون مع اليابان؛ إذ أعلن عن استثمارات ضخمة بمليارات الدولارات، في حين أعاد فتح قنوات الحوار مع بكين رغم التوترات التاريخية، وسعى إلى توسيع نطاق التجارة مع أوروبا وأميركا اللاتينية. هذه التحركات عكست إدراكاً بأن الاعتماد المفرط على السوق الأميركي بات مكلفاً للغاية، وأن تنويع الشراكات أصبح ضرورة لا خياراً، ولكن هذه التحركات لن تنتج تبادلاً تجارياً سريعاً، ولن تعوض السوق الأميركي بسهولة، وخسارة السوق الأميركي تعني ضربة مباشرة لطموحات «صُنع في الهند»؛ المشروع الذي يراهن عليه مودي لتحويل بلاده إلى قوة صناعية كبرى.
إن السياسة الحالية للولايات المتحدة تجاه الهند مفصلية؛ فهي ترمي بالهند في أحضان الصين وروسيا، وقد أُعلن بالأمس عن عودة الرحلات بين الصين والهند بعد سنوات من الانقطاع. وهناك خطط لزيارة رئاسية بين الدولتين بعد غيبة طويلة، بل إن بعض الأصوات بدأت تنادي بالتحالف مع الصين، وأن انحياز الهند للغرب أضر بمصالحها مع الصين، كما أن الهند لن تستغني عن النفط الروسي منخفض التكلفة الذي يدعمها اقتصادياً، وهو ما يعني المزيد من التقارب بينهما؛ أي إن الثلاثي (الهند والصين وروسيا) لم يكونوا على وفاق كما هم الآن، ولديهم منصة دولية (بريكس) تدعم هذا الوفاق، فهل تستحق هذه الرسوم الجمركية أن تضحّي الولايات المتحدة بالحليف الذي راهنت عليه لعقود لترمي به في أحضان أكبر منافس اقتصادي، وأكبر منافس سياسي؟
نقلا عن الشرق الأوسط