"الانتصار فى الحرب العالمية الثانية هو بداية التجديد العظيم للأمة الصينية" ... بهذة الجملة التاريخية لا يصف الرئيس شى جين بينج نقطة التحول الرئيسية لبلاده فحسب، بل يضع حدودا بحجم سور الصين فى خيال و قرار كل من يفكر على أى مستوى فى مواجهة التنين الذى لا يمكن لأحد إيقافه حتى فى المستقبل القريب، و ذلك على حد قوله فى العرض العسكري المهيب ـ 3 سبتمبر 2025 بمناسبة مرور 80 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن التأكيد على استمرار تجدد الصين حاضرا فى مظاهر الاحتفال الكبير، و لا فى الكلمات القوية للرئيس فقط، بل حتى فى ظهور "شى جين بينج" نفسه مجددا بالبدلة الماوية للزعيم التاريخى السابق "ماو تسي تونج"، فيما يعرف بزى اللحظات الاستثنائية الذى يستدعى من دولاب الماضى فى أوقات الإضطرابات الجيوسياسية المحيطة بالصين اليوم.
خلال السنوات العشر الماضية أتقن الرئيس جينبينج فنون الرسائل الرمزية للبدلة الماوية فى مناسبات هامة أبرزها الذكرى 70 لنهاية الحرب العالمية الثانية فى 2015 و الذكرى 70 لتأسيس جمهورية الصين فى 2019 و الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعى فى 2021، بالإضافة للاجتماعات الوطنية الهامة، مؤكدا على معانى الهوية و الشرعية و الوحدة و الانضباط و التكاتف الثورى فى البلاد.
و لكن ما هى التحديات الجيوسياسية الملحة التى أعادت بدلة ماو إلى الواجهة، ربما العنوان الكبير يدور حاليا حول الحروب التجارية الأمريكية ضد أغلب دول العالم و على رأسها و فى القلب منها الصين، فهل هناك من رابط فعلا، و هل الأمر يستحق ذلك رغم انحسار طلقات الرسوم الجمركية الأمريكية مؤقتا ؟! ... دعونا نفند ذلك فى النقاط التالية.
أولا، فى 2020 صدر للثنائى الامريكى، ماثيو كلاين و مايكل بيتس كتاب "trade wars are class wars"، و الذى يرى باختصار أن الحروب التجارية بين الدول ما هى إلا صراعات طبقية بين النخب الرأسمالية العالمية ... فبعد أن ضمنت تلك النخب المتحدة مع حكوماتها فى كل دولة تبعية و طاعة أسواقها الداخلية صارت تتنازع دوليا على وسائل الإنتاج و فوائض القيمة فى أسواق العالم الخارجية.
ثانيا، يرى كتاب حروب التجارة حروب طبقية، أن كل نخبة رأسمالية اخترعت نموذجا خاصا بها، فالصين بأسعار الفائدة و الاجور المنخفضة ضبطت استهلاك الأسر و رفعت المدخرات و وجهت غالبية الإنتاج للتصدير، مما راكم فائضا هائلا فى الحساب الجاري للبلاد، و على العكس منه النموذج الأمريكى المستهلك بقوة و المدين بلا سقف و الذى يعانى عجزا تجاريا مزمنا مع أغلب دول العالم ... بينما يتأرجح النموذج الأوروبي بتنوعه شمالا على الطريقة الصينية و جنوبا بأزمات أمريكية.
ثالثا، بالعودة إلى بدلة "ماو" فى أحدث ظهور لها على الرئيس "شى" فإن رسائلها الاقتصادية التاريخية وحدها سلبية للداخل الصينى أكثر منها للخارج، فعصر "ماو" بعقوده الثلاثة لم يفلح بقبضته الرهيبة و لا بشعارات الخطط الخمسية المتتالية إلا فى تراكم رأسمال و السلطة لصالح نخبة الطبقة الحاكمة من رجال الأعمال و القادة العسكريين و مضاعفة تراكم اجمالى الدخل القومي "وهميا" فى الصين أواخر الخمسينيات و ما تبعه من فساد كبير و فقر واسع أثقل كواهل طبقات الشعب.
و لكن شواهد الواقع تقول أن الرئيس شى يوازن و يجمع بين رمزية ماو السياسية فقط و ما تلاها من اصلاحات اقتصادية قوية للرئيس الراحل "دينج شياو بينج"، و بين تجربة "شى" نفسه بالتعامل مع معطيات العصر الحالى، و هو ما يؤكد على حيوية التجديد فى الصين اليوم، و لكن فى جوهره هو تجديد عظيم فعلا فى شكل و حجم و اداء النخبة الرأسمالية الحاكمة بالبلاد.
رابعا، العجيب أن أغلب البيانات تفصح عن احصائية واحدة للنخب الرأسمالية فى كلا من الصين و الولايات المتحدة الأمريكية، فأغنى 1% فقط من الأسر يمتلكون نحو ثلث ثروات البلاد، و القاسم المشترك بينهما القيمة فى الثروة العقارية و الاختلاف الواضح هو مصادر انتاج الثروة و دور القطاع المالى فيها ... فالاقتصاد الأمريكى بأسواقه الحرة المزعومة يعد القطاع المالى المحرك الأول و الأساسى و يشكل رسميا نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي و يتضاعف تأثيره أكثر بكثير من ذلك، بدليل أن القيمة السوقية لأسواق المال بالولايات المتحدة تصل إلى 180% من حجم الاقتصاد الأمريكى.
أما عن الصين فالقطاع المالى يلعب دورا خدميا بامتياز تحت سيطرة الدولة و يشكل رسميا نحو 5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، كما تشكل القيمة السوقية لأسواق المال نحو 70 % فقط من اقتصاد البلاد ... هوس أقل بالارباح الرأسمالية و انشغال مزمن بتمويل خطط التنمية الداخلية و التوسع الخارجى فى أنشطة إنتاجية حقيقية.
ختاما ، رسائل بدلة الزعيم فى العيد الثمانين قد ترى أن الأمر أكبر من حرب تجارية عابرة، و تقول أن النخبة الرأسمالية فى الصين مستعدة جيدا للحفاظ على نموذجها الخاص الذى تحاول نظيرتها الأمريكية التأثير عليه و تغييره لصالحها فى ظل صراع طبقي عظيم بين الاثنين للسيطرة على وسائل الإنتاج و فورات القيمة حول العالم.
خاص_الفابيتا