التخطيط الإستراتيجي وعلم الاقتصاد: ارتباط وتكامل

14/07/2025 0
م. نبيل عبدالرحمن الحقباني

من نافلة القول الإشارة إلى مفهوم الندرة Scarcity كحجر أساس ومنطلق محوري في بنية علم الاقتصاد كأحد فروع علوم الاجتماع، واعتباره أرضية مهمة انبثقت منها نظريات وتطبيقات علم الاقتصاد في شقيه الكلي والجزئي و كيفية استخدام الموارد المحدودة لتلبية الاحتياجات والرغبات البشرية، وكذلك في تحليل الإنتاج، التوزيع، والاستهلاك للسلع والخدمات، وفهم كيفية اتخاذ الأفراد والشركات والحكومات قراراتهم الاقتصادية، وتأثير هذه القرارات على تخصيص الموارد وتوزيع الثروة. كمتخصص في التخطيط الإستراتيجي لايروادني شك بأن هذه المفاهيم لها جوانب ارتباط وتشابه بين علم الاقتصاد وعلم التخطيط الإستراتيجي كأداة أساسية لتحقيق الأهداف الاقتصادية من خلال تطبيق منهجيات تحسين الفعالية Effectiveness والكفاءة Efficiency والتي ترتبط بدورها بمحدودية الموارد سواء الطبيعية او المالية او الموارد البشرية او التقنية وغيرها وأمثل الطرق لتوجيهها لتحقيق أعلى قيمة ممكنة من أي استراتيجية سواء كانت إستراتيجيات وطنية أو قطاعية أو مناطقية أو حتى على مستوى الشركات الربحية وغير الربحية.

قد تكون المكتبة العلمية فقيرة نسبيا في تناول العلاقة بين هذين الفرعين من العلوم ولم تتطرق الأدبيات العلمية بالشكل الكافي لهما بالرغم من الأهمية المتزايدة لعلم التخطيط الاستراتيجي وحجم الاستثمار الضخم فيه على مستوى دراسات استراتيجيات الدول والمؤسسات، وبالرغم من ذلك فنجد بعض المؤلفات الرصينة والعلماء الذين اهتموا في التأصيل والتنظير في هذا المجال ومن بينهم بول كروغمان Paul Krugman الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. كتب كروغمان العديد من الكتب والمقالات التي تربط بين النظريات الاقتصادية والتخطيط الاستراتيجي، خاصة في مجالات التجارة الدولية والتنمية الاقتصادية. ومن أشهر مؤلفاته مقاله المنشور في مجلة Harvard Business Review بعنوانCountry is not a company والذي تطرق فيه للفروقات بين السياسات الاقتصادية على المستوى الوطني والاستراتيجيات المؤسسية للشركات وطبيعة النظام المغلق محدود الخيارات القابلية لأخذ مخاطر دنيا للأولى والنظام المفتوح للثانية وتعدد الخيارات ومستويات المخاطرة التي تندرج تحته.

كما يظهر اسم الاقتصادي الأمريكي الآخر ريتشارد لانجلوس Richard Langlois كأحد المؤلفين في هذا الفرع من العلوم ومن أهم مؤلفاته Strategy as economics versus economics as strategy المنشور عام 2003م حيث تناول فيه أوجه التشابه والتداخل بين هذين العلمين كون علم الاقتصاد يركز بشكل وصفي على مجمل المنظومة الاقتصادية والكفاءة فيها بينما علم التخطيط الإستراتيجي يتناول التخطيط ومهمات المدراء على مستوى المنشأة .

تبرز أهمية التخطيط الإستراتيجي كعملية منظمة متسلسلة تهدف إلى وضع الأهداف والرؤى المستقبلية وتحديد الخطط والإجراءات اللازمة لتحقيقها وتتنوع من حيث حجمها ونوعها والمدى الزمني المستهدف والكيان المستفيد من هذه الخطة، فعلى سبيل المثال تختلف طبيعة الخطط الوطنية – مثل رؤية المملكة 2030 – أو الخطط القطاعية مثل الاستراتيجية الوطنية للصحة أو الخطط المناطقية من جهة، عن الخطط المؤسسية التي تستهدف مؤسسة او كيان معين بحد ذاته من جهة أخرى ، فيعتمد النوع الأول ويرتبط ارتباطا وثيقا بديناميكية مؤشرات ومتغيرات الاقتصاد الكلي الذي يعمل تحت مظلته وتكون مؤشرات اقتصادية مهمة مثل الناتج المحلي الإجمالي ومعدل البطالة والتضخم ومؤشر اسعار المستهلك وميزان المدفوعات وغيرها كمدخلات أساسية لبناء أي خطة إستراتيجية لها ، بينما يرتكز النوع الثاني من التخطيط الموجه للاستراتيجيات المؤسسية على نظريات وتطبيقات الاقتصاد الجزئي مثل نظريات تخصيص الموارد و تحليل السوق وتحليل التكلفة والعائد واستراتيجيات التسعير وقوانينه ذات العلاقة مثل المرونة السعرية للطلبPrice elasticity of demand وتكلفة الفرصة البديلة وإدارة المخاطر والقائمة تطول في استعراض تطبيقات الاقتصاد الجزئي في الاستراتيجيات المؤسسية .

كما تعتمد الاستراتيجيات الرصينة المحكمة على نماذج اقتصادية مهمة مثل SDS-CGE Model وغيرها من النماذج التي تساعد المخططين على وضع منظومة تنبوئية مبنية على أساس علمي تمكنهم من وضع سيناريوهات مختلفة لمراحل تنفيذ الاستراتجيات وتكون مدخلا محوريا لإدارة المخاطر والفرص على المدى المتوسط والطويل. كذلك تطبيقات نظريات الأمثلية Optimization Theories في الوصول لأفضل عائد ممكن بأقل التكاليف وهنا يلعب علم بحوث العمليات دورا محوريا بتكامله مع تطبيقات علم الاقتصاد في التخطيط الإستراتيجي ويعمل كمساهم رئيس في دعم اتخاذ القرار في عمليات الاندماج او الاستحواذ والشراكات الاستراتيجية وغيرها من التحركات الإستراتيجية الرأسية والأفقية في سلسلة القيمة.

يتراود كثيراُ أن من بديهيات التخطيط الإستراتيجي البحث عن إجابات للأسئلة الخمسة الرئيسية 5Ws لأي خطة إستراتيجية وهي بالإضافة إلى كيف؟: ماذا What وأين Where ومن Who ومتى When ولماذا Why . ومن قوة علم الاقتصاد أنه يوفر إجابات لهذه الأسئلة في طرح نظريات ومنهجيات علمية تحتاجها الكيانات خصوصاً في الإجابة على السؤال الأهم من بين هذه الأسئلة الخمسة وهو لماذا؟ من خلال وضع تفسيرات علمية تعمل كمبررات وجودية لأي كيان يعمل على تطوير أو تحديث توجهاته الاستراتيجية والمفاضلة بين خياراته في عالم ومنظومات شديدة التنافس على الموارد المحدودة.

 

المقالة منشورة في مجلة جمعية الاقتصاد السعودية عدد يونيو 2025.