ما بعد "فوضى الاقتصاد"...؟

09/07/2024 1
أ. توفيق أمين مدير

لا تحتاج أن تكون مطلعًا على السياسة لتُدرك أن "ترتيب النظام العالمي" يُعاد تشكيله، خاصة في ظل كثرة الأحاديث وإجماع الخبراء الذين تجاوزوا سؤال "هل يتغير النظام العالمي؟" لنِقاش تبعات ذلك التغيير سياسيًا، اجتماعيًا، ثقافيًا واقتصاديًا. لكن قد يكون السؤال الأهم لنا كاقتصاديين وصُناع سياسات: ما تبعات ذلك على علم الاقتصاد الذي لا يُمكن فصله عن السياسة؟ فهل يتغير الاقتصاد علمًا وتطبيقًا؟ وكيف؟

كان التضخم الركودي في أواخر السبعينات أحد أسباب تبني صُناع السياسة للمدرسة النيوليبرالية، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. وأصبحت تلك المدرسة هي المهيمنة على الفكر الاقتصادي والسياسات العامة في عديد من دول العالم. ثم فُوجئ العالم بالأزمة المالية في عام 2008م، وبدأ النموذج الاقتصادي النيوليبرالي يُواجه سيلًا من الانتقادات بداية بتسببها في الأزمة، وزيادة عدم المساواة والتغيُّر المناخي وفشل الأسواق في تحقيق وعود التنمية والازدهار للجميع عبر جعل "الكعكة" أكبر. كما كان لبُروز فرع الاقتصاد السلوكي دور كبير في ضرب أهم ركائز المدرسة النيوليبرالية: افتراض "عقلانية الفرد" التي تُبرر كفاءة السوق وتُحذِّر من التدخل الحكومي إلا في أضيق الظروف. رغم تصدع المدرسة النيوليبرالية، إلا أنها استطاعت تُحافظ على هيمنتها على السياسات العامة -على الأقل-.

فهل يُعيد التاريخ نفسه وتكون عودة التضخم بعد أزمة كوفيد القشة التي تقصم ظهر النيوليبرالية وتُعيد تشكيل الاقتصاد؟  للإجابة على هذا السؤال، دعونا نستقرئ بإيجاز بعض المؤشرات وانعكاساتها على الأوساط الشعبية والساحات الأكاديمية، وحقل السياسات العامة.شعبيًا، يشعر أغلب الأمريكيين بالإحباط من الوضع الاقتصادي، فقد سجل مؤشِّر إيدلمان للثقة مستوى تاريخياً منخفضاً منذ طرحه إذ يرى أغلب الأمريكيين أن الأحوال الاقتصادية لن تكون "أفضل في غضون خمس سنوات"، وأن أربعة من كل خمسة يشككون في أن حياة أطفالهم ستكون أفضل مما كانت عليه لجيلهم. أما أحدث استطلاعات الرأي بحسب مركز بيو، تشير إلى انخفاض تأييد الرأسمالية بين كل الأمريكيين، وخصوصاً الديمقراطيين والشباب، والواقع أن 58% من الديمقراطيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً لديهم الآن "انطباع إيجابي" عن الاشتراكية؛ بينما نحو 29% فقط يقولون نفس الشيء عن الرأسمالية! قبل أيام (24 مايو)، وقع عدد كبير من كبار الاقتصاديين والخبراء البارزين على عريضة بعنوان "كسب ثقة الشعوب" داعين الحكومات للعب دورًا أكبر في الاقتصاد والابتعاد عن الاعتماد المطلق على "كفاءة السوق" بما يُخالف التيار السائد.

أما أكاديميًا، فقد زاد عدد الاقتصاديين الساخطين على التيار السائد ويمكن أن نرى ذلك في مقال الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل أنغوس ديتون "إعادة النظر في رؤيتنا للاقتصاد"، الذي استخدم فيه لُغة حادة في انتقاد التيار الفكري السائد في الاقتصاد، إذ وصف مهنة الاقتصاد بأنها "في حالة من الفوضى". وأشار ديتون إلى خمسة مجالات رئيسية أخطأت فيها النظرية السائدة: تجاهل القوة والعلاقات القوية، عدم الاهتمام بالأخلاقيات، الهوس بالكفاءات، والتركيز المفرط على الاقتصاد القياسي.

وبيّن ديتون أنه "غالبا ما يقوم المؤرخون، الذين يفهمون مسائل الاقتران والسببية متعددة الأوجه ومتعددة الاتجاهات، بعمل أفضل من الاقتصاديين في تحديد الآليات المهمة المعقولة، والمثيرة للاهتمام، والتي تستحق التفكير فيها، حتى لو لم تكن تلبي المعايير الاستدلالية للاقتصاد التطبيقي المعاصر". بل أن المقال نشُر في العدد الأخير (نشرة مارس 2024) من مجلة التمويل والتنمية التابعة لصندوق النقد الدولي، والذي أيضًا خُصص عنوانه لمناقشة موضوع "علم الاقتصاد: كيف ينبغي أن يتغير؟" وهو بمثابة رسالة واضحة إلى الحاجة الملحة لإعادة تقييم الفكر الاقتصادي السائد خاصة بالنظر إلى عناوين مقالات العدد: "لماذا يجب على الاقتصاد أن يتغير وكيف له ذلك"، "تجديد الاقتصاد"، و "بوصلة جديدة لعلم الاقتصاد" وغيرها.

أما تطبيقيًا، فبعد أن كان مجرد نقاش "السياسات الصناعية" من المحرمات، لكونها تدخلًا حكوميًا واضحًا لدعم قطاعات استراتيجية، وهو ما يجعل المدرسة الليبرالية تصفها بأنها خطرة وغير فعالة وتُشوه كفاءة توزيع الموارد، وأن نجاحها في دعم تنمية الصين وكوريا واليابان يُمثل "استثناءً لظروف خارجية"! لذا فإن عودتها اليوم دليلًا ملموسًا على الابتعاد عن سياسات المدرسة السائدة وسياسات السوق الحر.

فرغم إصرار المدرسة النيوليبرالية على رأيها وتحفظ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تم إقرار أكثر من 2500 سياسة صناعية خلال العام الماضي، أي نحو ثلاثة أضعاف ما تم في عام 2019، أغلبها من قِبَل الاقتصادات الأكثر ثراءً وتقدماً، وهي الاقتصادات ذاتها التي كانت سابقًا تنتقدها رغم أنها كانت يوما ما من أهم أسباب تقدم تلك الدول نفسها بحسب الاقتصادي هاجون تشانغ. أما اقتصادي جامعة كولومبيا الحائز على نوبل للاقتصاد جوزيف ستيجليتز فيرى بأن حزمة السياسات الصناعية التي أقرتها الولايات المتحدة العام الماضي هي "أمر بدهي كتعويض عن الوقت الضائع بعد تجربة فاشلة دامت أربعين عاماً من السياسات النيوليبرالية" 

كيف يجب أن نتعامل مع الاقتصاد؟

ليس المغزى هنا انتقاد مدرسة فكرية معينة وتفضيل أخرى، ولا حتى الترويج لتدخل الحكومات أو للسياسات الصناعية -رغم أهمية تلك النقاشات-، لكن دعوة لـ"إعادة النظر في رؤيتنا للاقتصاد". فهو علم سياسة واجتماع مهما حاول تقليد العلوم الطبيعية كالفيزياء وتنكر بأدواتها التحليلية ونماذجها الرياضية. لا يمكن تبني (نسخ ولصق) أفكار وسياسات اقتصادية لعلم سياسي دون وعي بالايديولوجيات، ولعلم اجتماعي دون فهم طبيعة الاختلاف بين المجتمع ومكوناته.

وحتى لا نقع في تحيز "المدرسة الواحدة" مجددًا، يتوجب علينا -بدءًا من التعليم- تبني "تعددية الفكر الاقتصادي" بتحكيم العقل مستفيدًا من منظور مختلف المدارس الاقتصادية في صنع السياسات العامة والتحليل الاقتصادي بدلًا من مجرد الانسياق -بحجة تجارب الدول أو رأي الخبراء- وراء سياسات لم تُحقق تطلعات شعوبها، ويُشكك فيها خبراءها، ويتجاهلها صُناع سياستها، بل ومراجعة السياسات بشكل دائم ووفق ما يقتضيه السياق الاجتماعي والتاريخي والأخلاقي -خاصة ما تم تبنيه تحت مسلمات وتحيزات فكرية انتهى تاريخ صلاحيتها.

 
 
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد يونيو 2024