ماذا بعد الناتج الإجمالي؟

30/06/2025 0
د. عبدالله الردادي

الناتج الإجمالي هو الرقم الأثير لدى الحكومات وصنّاع السياسات والمستثمرين، فهو المؤشر الذي يستخدم على نطاق واسع للحكم على صحة الاقتصاد، وتُبنى على أساسه الميزانيات، وتُقاس به الإنجازات الاقتصادية، وتُطلق على أساسه خطط النمو والازدهار، وهو المؤشر الذي يحتل العناوين، ويوجّه الرأي العام، كل ذلك لأنه ببساطة رقمٌ واحد، يمكن شرحه بسهولة متناهية، ويعطي انطباعاً عن النجاح أو الفشل، إلا أنه في النهاية يبقى رقماً واحداً، يعطي منظوراً أحادي الجهة، ولا يعكس أبعاداً كثيرة تهم الدول بل وتتمحور حولها توجهات العديد من الدول، فهو لا يعكس أهداف وتحديات التنمية المستدامة، ولا يقيس مدى التحول الرقمي، ولا العدالة المجتمعية وفوارق الدخل، فهل ما زال هذا المؤشر يتناسب مع العصر الحالي؟

عندما ظهر مفهوم الناتج المحلي الإجمالي في ثلاثينات القرن العشرين، كان العالم يغص بالكساد العظيم، وكان هذا المؤشر أداة طارئة لقياس نشاط الاقتصاد الكلي في وقت كانت قلة الأنشطة الاقتصادية مشكلة العالم، واستخدم لاحقاً خلال الحرب العالمية الثانية لتقدير الطاقة الإنتاجية للدول وتسخيرها في الحرب، وتبنّته بعد ذلك المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، ليصبح بعد ذلك المعيار القياسي لمقارنة اقتصادات الدول حتى وقتنا هذا، ولا شك أنه مفيد في قياس الحجم الاقتصادي، ولكنه قاصر في معايير جوهرية مثل الرفاه المعيشي وجودة الحياة وغيرها.

وهناك عدة أمثلة لوجوه القصور في مؤشر الناتج الإجمالي المحلي، فهو لا يأخذ في الحسبان التفاوت في توزيع الثروة، فقد يُظهر أن بعض الدول ذات ناتج قوميٍّ عالٍ، وهي دول تتسع فيها الفجوة بين الفقراء والأغنياء كما هو الحال في الهند، وقد يُظهر أن بعض الدول في نمو مطّرد، وهي تعاني من مشاكل هيكلية داخلية قد تعصف باقتصادها كما هو الحال مع الصين، وعلى الرغم من أن الصين بالفعل معجزة العصر الحالي بانتشال مئات الملايين من تحت خط الفقر، ويرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً بنمو الناتج الإجمالي، فإن هذا المؤشر لم يوضح الصورة بأكملها، ودلالة ذلك أن هذا المؤشر لم يأخذ في الحسبان أزمة القطاع العقاري الذي يمثل ربع الناتج الإجمالي الصيني على الأقل، وينطبق الأمر نفسه على الدول التي تشهد تدهوراً بيئياً أو انخفاضاً في الخدمات الصحية أو غيرها من الأمور الجوهرية.

وقد ظهرت مؤشرات عدة تعطي انطباعاً أكثر شمولية من الناتج الإجمالي مثل مؤشر التنمية البشرية الذي يجمع بين ثلاثة أبعاد وهي متوسط العمر المتوقع، ومستوى التعليم، ونصيب الفرد من الدخل القومي، ليعكس قدرة الإنسان على عيش حياة طويلة صحية مثمرة، كذلك مؤشر الحياة الفضلى الذي تبنّته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والذي ينظر في أحد عشر بُعداً للحياة منها جودة السكن والصحة والبيئة والعمل والمشاركة المجتمعية والتوازن بين الحياة الشخصية والمهنية، جميع هذه المؤشرات تبدو أكثر ملاءمة لإعطاء فكرة أشمل عن الدول، فلماذا لا يتم استخدامها على نطاق واسع؟

الواقع أن هذه المؤشرات البديلة غالباً ما تكون معقدة وصعبة القياس وتفتقر إلى التوافق الدولي في منهجياتها، وغالباً ما تتبنى العديد من الدول مؤشرات تناسب حيثياتها، ولا تناسب بكل حال دولاً أخرى، ويسبب ذلك صعوبة في المقارنة بين عبر الزمن أو بين الدول، كما يتطلب حساب بعض هذه المؤشرات توفر بيانات دقيقة عن المحتوى المحلي، ولا تمتلك العديد من الدول الإمكانات لتوفير هذه البيانات، وهي بعد ذلك كله، تحتاج إلى شرح، بعكس الناتج الإجمالي الذي يمتلك جاذبية لا تضاهى، رقم واحد سهل الفهم، وقابل للتداول إعلامياً، يسهل حسابه ويعطي مرونة في المقارنات التاريخية والجغرافية.

سيكمل مؤشر الناتج الإجمالي قرناً من الزمن بعد سنواتٍ قليلة، ولا يبدو أن هناك أي مؤشر قريب لمنافسته، ولا مجال للتشكيك بأهميته وقدرته على قياس حجم الأنشطة الاقتصادية، وقد كان كافياً خلال القرن الماضي لكنه قد لا يكون كذلك للعقود المقبلة، والتقدم الاقتصادي لا يقاس بعدد وحجم الأنشطة الاقتصادية فحسب، بل بجودتها وتنوعها ومناسبتها لتوجهات الدول، ولو كان هذا الرقم كافياً لما حرصت الدول على تنويع الاقتصاد، والتشجيع على العمل التطوعي، وتطوير التعليم، والارتقاء بالخدمات الصحية، والحفاظ على البيئة، كل ذلك لا يُقاس بالناتج الإجمالي، بل وبعضه لا ينعكس حتى عليه.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط