اتخذت تراتبية العوامل الثلاثة التالية؛ نمو القطاع الخاص، الفائدة، والتضخم، منذ الربع الثالث من 2022 نمطاً مختلفاً من الترتيب لم يسبق حدوثه منذ أكثر من عقدين من الزمن، واستمر ترتيب تلك المتغيرات حسب أعلاها قيمة على النحو التالي: (أولا) فائدة ثم (ثانيا) نمو القطاع الخاص ثم (ثالثا) التضخم، للربع السادس على التوالي منذ ذلك التاريخ المتمثل في الربع الأول من العام الجاري، وجاءت نتائجه كالتالي: استقرار سعر فائدة الإقراض بين البنوك فترة ثلاثة أشهر عند أعلى من 6.2 %، ثم تقديرياً نمو القطاع الخاص بالأسعار الحقيقية بنحو 4.0 % (نفس معدل نمو الربع الأخير من 2023)، وأخيراً استقرار معدل التضخم عن الربع الأول من 2024 عند مستوى 1.7 %. وللتعرف على تلك التراتبية بالنسبة للاقتصاد الكلي؛ فالاختلاف ينحصر في أنّ النمو الاقتصادي يأتي في المرتبة الثالثة أو الأدنى بعد كلٍ من أسعار الفائدة ثم التضخم، ويأتي ذلك بتأثيرٍ عكسي من الانكماش المستمر في القطاع النفطي.
تؤكد النظرية الاقتصادية والتجربة؛ على أنّ وضعاً تتجاوز فيه أسعار الفائدة معدل التضخم فترةٍ أطول، ستكون له آثاره العكسية بالتأكيد على النمو الحقيقي لنشاطات الاقتصاد، وتزداد تلك الضغوط في حال تضاعفت الفروقات بين الفائدة والتضخم بأكثر من اللازم، كما هو قائم في حالتنا أعلاه بوصول الفائدة لأكثر من 3 أضعاف معدل التضخم، وهو أيضاً ما ظهرت آثاره في معدل النمو الحقيقي للقطاع الخاص، الذي ظل يتباطأ طوال تلك الفترة من الربع الثالث في 2022 من نموه بـ 6.2 % إلى أن استقر عند 4.0 % بنهاية الربع الأخير، وفي حال استمرّت الأوضاع الراهنة بمحافظة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على سياسته المتشددة ورفع أسعار الفائدة، في ذات الوقت الذي لا زال بعيداً عن هدفه بانكماش التضخم إلى 2.0 % فما دون، ولا يبدو أنّه قد يتحقق له ذلك الهدف بعيد المنال قبل نهاية 2025، وهي السياسة النقدية التي تتبعها السياسات النقدية في دول مجلس التعاون الخليجي لارتباط عملاتها بسعر صرفٍ ثابت مع الدولار، فإن كل ذلك سيعني مزيداً من الضغوط على مختلف النشاطات الاقتصادية بمستويات متفاوتة، وهو الوضع الذي سيحمل مجمله كثيراً من التحديات على كاهل المنشآت في القطاع الخاص، نظير ارتفاع تكلفة تمويل النشاط الإنتاجي مقابل ضعف القدرة الشرائية للطلب.
وأمام ضبابية مستقبل المتغيرات الاقتصادية عالمياً؛ بالتزامن مع تضاعف حدة الصراعات الجيوسياسية وحتى الاقتصادية والتجارية، وما لذلك من انعكاساتٍ حادة على الأسواق وإمداداتها، فقد لا تفي أمام هذه المشاهد العالمية بالغة التعقيد؛ أي من السياسات الاقتصادية التحفيزية التي عادةً ما تتخذ في مثل الظروف الراهنة من التقلبات وعدم الاستقرار الاقتصادي والمالي الواسع عالمياً، في حين قد لا يتجاوز أثرها مجرد التخفيف من التداعيات العكسية اقتصادياً ومجتمعياً، وهو ما يعد أثراً جيداً ومحموداً حدوثه في ظل الأوضاع غير المواتية التي يحتمل أن يشهدها الاقتصاد، والرهان من ثم على مرحلية تلك التطورات العكسية، وأنّها غير مستدامة وسرعان ما ستزول بالعودة إلى الأساسيات والموارد المتوافرة، الذي تتباين بالنسبة إليهما أغلب الاقتصادات حول العالم، وسيؤديان لاحقاً إلى سرعة نمو الاقتصادات الأكثر وفرةً من ركائز النمو والموارد اللازمة، وهذا أمرٌ من المبكر التفكير فيه خلال الفترة الراهنة، بقدر ما أن من الأهمية البحث في الخيارات والبدائل المتاحة محلياً، لحماية النمو الحقيقي للقطاع الخاص من التراجع، والمحافظة على تسارع وتيرته خلال الفترة 2024-2025 على أقل تقدير، وإلى أن يتجاوز الجميع السياسات المتشددة للبنوك المركزية.
نقلا عن الاقتصادية