ملاذات العمل عن بُعد

09/06/2025 0
د. عبدالله الردادي

شهدت طبيعة العمل تحوّلاً جذرياً في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد العمل عن بُعد مجرّد استجابة مؤقتة لأزمة صحية عالمية، بل أصبح جزءاً أساسياً في اقتصاد العصر الحديث، ففي حين لم تتجاوز نسبة الوظائف القابلة للتنفيذ عن بُعد 4 في المائة على مستوى العالم قبل عام 2019، ارتفعت هذه النسبة لتتجاوز 30 في المائة في ذروة الجائحة، واستقرّت لاحقاً عند مستويات تتراوح بين 20 و25 في المائة في الاقتصادات المتقدمة، وفي الولايات المتحدة وحدها، أفاد مكتب الإحصاء الوطني عام 2024 بأن أكثر من 39 مليون شخص - أي نحو واحد من كل أربعة عاملين - يمارسون أعمالهم من المنزل بشكل جزئي أو كامل، ويعكس هذا التحوّل واقعاً جديداً في أساليب العمل لا يبدو مؤقتاً، بل يمثل إعادة صياغة طويلة الأمد لمفاهيم المكان، والإنتاجية، وتوزيع الفرص، فما أثر هذا التحول؟ وما المفاهيم والتغيرات الجديدة التي انبثقت منه؟ وكيف انعكس ذلك على السياسات الحكومية؟

امتد تأثير التحوّل للعمل عن بعد ليطول البنية السكانية للدول، حيث أدّى فك الارتباط المكاني بين الوظيفة وموقع الموظف إلى تغيير عميق في أنماط السكن والهجرة الداخلية، فلم يعد المهنيون ذوو المهارات العالية ملتزمين بالإقامة في المدن الكبرى أو بالقرب من مراكز المال والأعمال، بل باتوا يفضّلون الانتقال إلى وجهات توفر جودة حياة أعلى، وتكلفة معيشة أقل، وبنية تحتية رقمية موثوقة، ونتيجة لذلك، بدأت مدن من الدرجة الثانية، ومناطق ريفية، وحواضر متوسطة الحجم تشهد موجة متجددة من النمو السكاني والاقتصادي، مدفوعة بتدفق الكفاءات والرواتب المرتفعة من مراكز العمل التقليدية.

ومن رحم هذا التحوّل السكاني والاقتصادي، برز مفهوم جديد كليّاً وهو «ملاذات العمل عن بُعد»، هذه الملاذات هي مدن ومناطق تجمع بين عناصر الجاذبية السكنية، وتوافر الإنترنت عالي السرعة، وانخفاض التكلفة، ومرونة أنماط الحياة، مما يجعلها وجهات مفضلة للمهنيين المتنقلين حول العالم، وقد نشأت هذه الملاذات أحياناً بصورة طبيعية نتيجة تفوقها التنافسي، وفي أحيان أخرى كانت ثمرة استراتيجيات حكومية متعمدة أعادت صياغة أولويات التنمية لتعكس هذا النمط الجديد من الاقتصاد المعرفي العابر للمكان، فهذه المدن لم تعد مجرد خيارات بديلة للإقامة، بل منصات إنتاجية ومجتمعية جديدة.

وقد سارعت الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى استيعاب هذا التحوّل من خلال تبنّي سياسات جديدة تهدف إلى اجتذاب العاملين عن بُعد وتسهيل إقامتهم، فمنذ عام 2021، أطلقت أكثر من خمسين دولة برامج إقامة رقمية أو تأشيرات خاصة للعاملين المستقلين، تشمل دولاً مثل إستونيا، والبرتغال، وكولومبيا، وماليزيا، وتشير الأرقام إلى ازدياد لافت في الإقبال على هذه البرامج، إذ سجّلت إستونيا زيادة بنسبة 62 في المائة في طلبات الحصول على الإقامة الإلكترونية، بينما أصدرت البرتغال أكثر من 15 ألف تأشيرة عمل عن بُعد خلال عام 2024 وحده، وهو رقم قياسي في تاريخها، أما الولايات الأميركية مثل أوكلاهوما وفيرمونت، فقد قدّمت حوافز مالية تصل إلى عشرة آلاف دولار للعاملين عن بُعد الذين يختارون الانتقال إليها، في حين كثّفت حكومات محلية عديدة استثماراتها في البنية الرقمية، وخدمات المدن الذكية، ومساحات العمل المشتركة.

وقد أثمرت هذه السياسات والظروف الاقتصادية المتغيرة بروز عدد من المدن كأمثلة رائدة على «ملاذات العمل عن بُعد»، فجزيرة غران كناريا في إسبانيا تحوّلت إلى مركز مزدهر للمهنيين الأوروبيين الباحثين عن بيئة إنتاجية مريحة، مستفيدة من مناخها المعتدل، وتكاليفها المقبولة، وبرامج التأشيرة التي تسهّل الإقامة القانونية للعاملين عن بُعد، وفي البرتغال، رسّخت العاصمة لشبونة مكانتها كوجهة دولية مرموقة لهذا النمط من العمل، مستندة إلى مزيج من الغنى الثقافي، والبنية الرقمية المتطورة، والسياسات الحكومية الداعمة، وفي أميركا اللاتينية، برزت مدينة ميديين الكولومبية كنموذج على قدرة المدن الصاعدة على جذب واستيعاب العاملين المتنقلين، بفضل تحسّن بنيتها التحتية، وتكلفة المعيشة المنخفضة، وبرنامج تأشيرة العمل الرقمية الذي يمتد لعامين، أما في آسيا، فلا تزال مدينة تشيانغ ماي التايلاندية تحافظ على مكانتها المفضلة، بفضل مجتمعها العالمي، وتكاليفها المعقولة، واستقرار خدماتها، وفي الولايات المتحدة، برزت مدينة أوستن بولاية تكساس كمغناطيس داخلي للمهنيين الأميركيين العاملين عن بُعد، بما توفره من بيئة ضريبية ملائمة، ونشاط اقتصادي متسارع، ومشهد ثقافي نابض بالحياة.

حتى المقاهي شهدت تحولاً هي الأخرى، فعلى الرغم من أن المقاهي أصبحت أماكن للعمل بمفهوم «المكان الثالث» منذ فترة ليست بالقصيرة، فإن الإقبال تزايد عليها بشكل لافت من قِبل العاملين عن بُعد، الذين وجدوا فيها بديلاً متوازناً عن العمل من المنزل، يجمع بين الراحة والتحفيز والمرونة، ووفقاً لدراسات حديثة في أوروبا وأميركا الشمالية، فإن ما يقرب من 30 في المائة من زوار المقاهي في أسبوع العمل يستخدمونها لأغراض تتعلق بالعمل، مقارنةً بنسبة لم تتجاوز 11 في المائة قبل عام 2020. واستجابة لهذا التغير، ظهرت فئة جديدة من المقاهي الهجينة التي تمزج بين المقهى التقليدي ومساحة العمل المشتركة، فتوفّر إنترنت فائق السرعة، ومقاعد مصمّمة للجلوس الطويل، وغرف اجتماعات صغيرة، وحتى اشتراكات شهرية للزوار المنتظمين، كما قامت المقاهي التقليدية بإعادة تصميم بيئاتها، وتعديل قوائمها، وتوسيع ساعات عملها لتلبية احتياجات شريحة متزايدة من المهنيين المتنقلين.

إن إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية للعمل تفتح آفاقاً واعدة وتحديات متشابكة في آن واحد، فالمناطق التي تواكب هذا التحوّل برؤية استباقية قادرة على اجتذاب ليس فقط الدخل والاستثمار، بل أيضاً الحيوية السكانية والديناميكية المجتمعية، أما المدن التي تتخلف عن مواكبة هذا المسار فقد تجد نفسها خارج الدورة الجديدة للاقتصاد العالمي.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط