"شاهد ما شفش حاجة" .. دروس في التفاوض

04/05/2025 0
د. محمد آل عباس

تظل مسرحية (شاهد ما شفش حاجة) التي (يقال إنها رواية للكاتب البريطاني الشهر بيتر أوستينوف) وأذيعت في ثمانينيات القرن الماضي علامة فارقة في عالم المسرح العربي، ولست أقول ذلك كناقد أدبي، فلست المؤهل لذلك، بل كمشاهد عربي فقط. ويظل مشهد دخول بطل المسرحية (سرحان عبدالبصير – عادل إمام) وهو يحمل كيسا كبيرا من الخيار للأرانب التي لا يتعامل إلا معها، وبما يعكس شخصيته المترددة والخائفة، مشهدا مليئا بالتفاصيل الإبداعية، وهو المشهد الذي استهل به مؤلف المسرحية الفصل الثالث فيها، عندما بدأ التحقيق مع (سرحان)، ويبدأ المشهد بتفاوض صامت بين "سرحان" ومجموعة من الرجال أصحاب الهامات الكبيرة والقوة البدنية الهائلة، تفاوض صامت نشأ من اعتقاد (سرحان) أنه دخل المنزل الخطأ، وأنه ليس في منزله.

فيبدأ بتقديم بعض الخيار لهم للسماح له بالخروج، لكنه يجد الباب موصدا أمامه، ثم يحاول التفاوض بصمت ومن طرف واحد فقط، فيقدم جزءا أكبر من الخيار ثم يأخذ واحدة فقط، لكنه يجد الرفض والباب مغلق دائما، يحاول أخيرا تقديم كل الخيار الذي لديه ويتخلى عنه، ويذهب إلى الباب لكنه يجد الرفض مرة أخرى، يقدم شرحا لاستخدامات الخيار وطرق طهيه، كحيلة للسماح له بالخروج، تفاوض من طرف واحد يقدم التنازلات واحدا تلو الآخر، ويحاول الفوز بالخروج من المنزل، بينما لا يجد أي رد أو مناقشة. كل ذلك يحدث وهو يعتقد أنه في المنزل الخطأ، ثم يتحرك المشهد الصامت مع بدء المحقق (أحمد عبد السلام - عمر الحريري في المسرحية) بتوضيح أسباب وجودهم في منزله، وأنهم يريدون التحقيق معه، والتحقق من بعض المعلومات. يأخذ الفصل منحنيات عديدة في شكل التفاوض المتعب بين سرحان الخائف وبين المحقق القوي والعنيد.

وفي وسط المشاهد وبعد مضي وقت طويل على مشهد تفاوض الخيار الأول وفي لحظة تعد ذروة في الفصل وترقب إفصاح (سرحان) عن حقائق مهمة والجميع يتلهف للسماع، يقطع الحوار الساخن قول (سرحان) لأحد العاملين مع المحقق (سيب الخيار)، (أي اترك الخيار ولا تمسه)، لعل تلك اللحظة التي بدت وكأنها مجرد لحظة من كوميديا الموقف تُظهر بجلاء عبقرية المؤلف، الذي غير الموقف التفاوضي لسرحان تماما، فبعد أن كان مستعدا لمنحهم كل الخيار أصبح يقول لا أحد يلمس الخيار. فما الذي تغير في الموقف التفاوضي؟ التفاوض فن وعلم من أهم علوم الإدارة، وبغير التفاوض لا يمكن صناعة رجال أعمال حقيقيين، بدون فنون التفاوض لن نتعلم الفرص وكيف تتم قراءة وتحليل البيانات وفهم ما بين السطور وبناء موقف تفاوضي أو التخلي عنه، بدون فهم دور التفاوض في عمليات القرار لن نفهم ضرورة وجود إدارات ومراكز دعم القرار.

التفاوض فن ندير به الصراع ونتحمل الظروف لصناعة موقف أفضل. ورغم أثره المهم جدا في صناعة المال والأعمال وتقليص التكاليف والفوز بالأرباح والجودة معا فإن معظم (إذا لم يكن كافة) طلابنا يتخرجون من كليات الأعمال وهم لا يجيدون هذه المهارات بل لا يعلمون ما هي. مهارات التفاوض كثيرة وتتطلب تدريبا وورش عمل ومحترفين.

وبالعودة إلى المشهد والمسرحية فإن سرحان كان يجهل أين هو بداية، ولديه تصورات خاطئة عن الوضع، واعتقد أنه بتنازله عن الخيار يحقق ما يريد، وهو لا يعرف ما يريد ابتداء وأنه في موقف بائس بلا معلومات ولا معرفة بالطرف الآخر ولا ماذا يريد. في مواقف مثل هذه فإن التفاوض مجرد مشهد عبثي مثل التنازل عن الخيار لا علاقة له بكل المسرحية، ولا حتى عندما قطع التحقيق وطالب بعدم لمس الخيار في نهاية الموقف.

مشاهد عبثية وسط أحداث مهمة. للتفاوض الناجح قواعد وسلوك ومنهج، ويتطلب جمع معلومات ضخمة عن الطرف الآخر ولمَ يتفاوض وعلى ماذا. التفاوض هو المشهد الحقيقي وليس العبثي، والذي أظهره مؤلف رواية مسرحية "شاهد ما شفش حاجة" في الفصل الرابع، عنما تم إقناعه بالشهادة وهو لا يعرف شيئا، وليس لديه القدرة على ذلك. لقد انتصر المحقق (أحمد عبد السلام) في التفاوض على سرحان، الذي كان يظن أن المسألة مجرد خيار.

 

 

نقلا عن الاقتصادية