يعتبر التفاوض المالي (Financial negotiate) المقدمة الرئيسة للعقود المالية والاتفاقيات، وقد صار علما مستقلاًّ وله كتب باللغات الحية، إلا أن الكتب التي تخدمه بالعربية قليلة جدا، وغالبها مترجم من لغات أخرى.
ومع ما للتفاوض من أهمية في إتمام العقود، فلم أجد كتبا تخدم الجانب القانوني إلا كتباً قليلة جدا، منها كتاب الجوانب القانونية في إطار المفاوضات وإبرام العقود من تأليف محمد إبراهيم دسوقي، وكتاب المسؤولية المدنية في مرحلة التفاوض دراسة في القانون المصري والفرنسي من تأليف محمد حسام محمود لطفي، وأما الأحكام الفقهية لمرحلة ما قبل التعاقد فلا يكاد يوجد كتاب يجمعها، ولعل الله أن ييسر جمعها ببحث يغطي جوانبه.
ويمكن تحديد مفهوم التفاوض بأنه التحاور والمناقشة للوصول إلى اتفاق مشترك بين طرفين للحصول على حل متفق عليه للحفاظ على مصالح الأطراف المتفاوضة وحل ما بينها من مشكلات أو تقريب وجهات نظرها بأسلوب حضاري.
وبطبيعة الحال فإن رحلة التعاقد قد تنتهي سريعا في جلسة واحدة، وقد تستمر لسنوات، حسب نوع العقد وتعقيده، فعلى سبيل المثال لو رغبت شركتان في اتفاقية للاندماج فإن ذلك يستغرق وقتا، واتفاقيات تسبق التعاقد، فتبدأ الرحلة بعقد اتفاقيات تمهيدية تحرر في مستندات تحضيرية تبادل فيها الأطراف الرؤية والمفاهيم حول أمور تتصل بالمفاوضات حول العقد النهائي، ولعل من أهمها ما يسمى بخطاب النوايا أو التفاهم.
ويعبر عنها بخطاب النية (Letter-of-intent) أو خطاب التفاهم (Letter-of-understanding)، أو مذكرة التفاهم (Memorandum-of-understanding) أو مذكرة أساسيات الاتفاق (heads-of-agreement).
ويمكن تحديد مفهوم خطاب النوايا بأنه وثيقة مكتوبة قبل العقد النهائي تعكس الاتفاقات أو الفهم المبدئي لطرف أو أكثر من أطراف التعاقد التجاري بغية الدخول في عقد مستقبلي.
ويهدف خطاب النوايا إلى رسم الخطوط العامة ووضع الإطار المبدئي للمفاوضات المستقبلية تمهيدا لإبرام العقد النهائي. والأصل أن خطاب النوايا غير ملزم لمن أصدره، إلا في حالات محددة حسب كل قانون.
ومن الاتفاقيات والمحررات التي تسبق العقود خطاب دعوة للتعاقد، وهو خطاب موجه للطرف الآخر ويتضمن الرغبة في التعاقد دون ذكر لتفاصيل العرض. وقد يتضمن الخطاب دعوة للبدء في التفاوض أو يوضع في خطاب مستقل.
ويلي ذلك خطاب الاتفاق المبدئي الحر (يتضمن عادة الشروط المشهورة)، ثم يرسل خطاب الاتفاق المبدئي التعاقدي، وتنتهي الرحلة التفاوض بخطاب مشروع العقد النهائي.
ومن الاتفاقيات التي تسبق التعاقد الاتفاقيات الإطارية وتتضمن الشروط المشهورة، وليس لها قوة ملزمة مثل العقد.
كما أن اتفاقية التسهيلات التي تنتشر في البنوك ليس لها حكم العقود من جهة الإلزام للطرفين، بل هي التزام من البنك، وللطرف طالب التسهيل أن يتعاقد وفقا للاتفاقية إذا رغب، فهي في الحقيقة ممهدة للعقد وليست عقدا مستقلا بنفسه.
ويحسن ذكر أهم أخلاقيات مرحلة التفاوض التي يغفل عنها الكثير من المفاوضين المالين والمسوقين:
أولا: يجب أن يكون التفاوض قائما على حسن النية والصدق والوضوح والشفافية، ويفترض أن يتميز المفاوض المسلم بالشفافية والوضوح، والصدق في التعامل، وقد ورد فضل التاجر الصادق في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" رواه الترمذي وقال حديث حسن .
والصدق في التعامل المالي سبب للبركة، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
ثانيا: يجب الابتعاد عن الغش والتدليس، وذلك من الأمانة التي تقل في كثير من الناس، وقد قال تعالى:" ويل للمطففين الذي إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون"، وقال سبحانه:" وأوفوا الكيل والميزان بالقسط"، وقد كان الغش في البيع من أسباب عذاب الله تعالى لقوم شعيب، ولذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" من غش فليس منا" رواه مسلم.
ثالثا: يجب الابتعاد عن الحلف أثناء التفاوض والتسويق، وفي هذا سبب لمحق البركة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب" متفق عليه.
وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفِّق ثم يمحق" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع/ 2685.
رابعا: ينبغي للمفاوض أن يكون سمحاً ليناً، ويعمل بطريقة:" الكل يربح"، ويحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ليدخل في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة، فقد صح عنه أنه قال:" رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" رواه البخاري (فتح الباري 4/359). ويدخل في ذلك:
- من السماحة إقالة المشتري أو البائع، لينال الأجر عند الله تعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة". رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرطهما.
- ومن السماحة حسن القضاء، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أبي هريرة قال " ما استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سنا فأعطى سنا خيرا من سنه وقال خياركم أحاسنكم قضاء " - رواه أحمد والترمذي وصححه .
وعن أبي رافع قال " استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بَكْرَهُ، فقلت: إني لم أجد في الأبل إلا جملا خيارا رباعيا! فقال: أعطه أياه، فإن من خير الناس أحسنهم قضاء " - رواه الستة إلا البخاري. وعن جابر رضي الله عنه قال " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني " - متفق عليه.
- ومن أخلاقيات المفاوض مع المدينين أن ينظر بالرحمة لهم، بجدولة ديونهم بطريقة ميسرة بلا فوائد محرمة، ولا منة تكسر نفوسهم، امتثالا لقوله تعالى:" وإن كان ذو عسرة فتظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون".
وخير من ذلك إعانة المدين بوضع جزء من الدين، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" رواه مسلم برقم 1196.
ويحسن ذكر تنبيهات مهمة للمفاوض لحمايته وحماية المنشأة التي يمثلها قبل أن يتورط بالتزامات بسبب وعيه بها:
التنبيه الأول: لا تعد الطرف الثاني بوعود إلا وأنت متأكد من الالتزام بها، فقد قرر الفقهاء أن المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة لأنه يظهر فيها حينئذ معنى الالتزام والتعهد.
مثال ذلك: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك ثمنه فأنا أعطيك إياه. فإذا لم يعطه المشتري الثمن لزم على الرجل أداء الثمن المذكور بناء على وعده.
ويرى فقهاء المالكية أن الوعد إن ارتبط بسبب كقوله تزوج ولك كذا، فتزوج لزمه ما وعده، ومستند هذا التفصيل أنه ليس للمسلم أن يضر بأخيه، لحديث لا ضرر ولا ضرار.
وقد وقفت على قصة تورط فيها أحد المستثمرين بسبب وعد أثناء التفاوض، فقد عرض هذا المفاوض أرضا بقيمة 200 مليون على أحد المستثمرين، ووعده بتمويله ببقية المبلغ خلال 60 يوما، فدفع هذا المستثمر 20 مليون ريال مقدم للعقد، ولم يوفِ المسوق بالتزامه، وكان هدفه نسبة التسويق، وبقيت هذه القضية في أورقة المحاكم أكثر من 10 سنوات ولو تم توثيق ذلك عند محامٍ قدير، لما حصل ما حصل.
التنبيه الثاني: الشروط التي تسبق العقود لها حكم الشروط في العقد، فإذا اشترط المشتري شروطا في مرحلة التفاوض وقبل بها المفاوض والمسوق، فيجب الالتزام بها.
التنبيه الثالث: ذكر الأوصاف في العقود له حكم الشروط. فإذا قال المفاوض: هذه الأرض عليها تصريح لفندق، وسيقام بجانبها سوق كبير يزيد من سعرها، فإن هذه الأوصاف لها حكم الشروط، وعند انعدامها يكون للمشتري الخيار.
التنبيه الرابع: يجب أن يحضر المفاوض والمسوق لجلسة التفاوض، ويعرف الحدود الشرعية للتنازلات، فلا يجوز أن يوافق على أي شرط يتضمن الربا أو الغرر أو الضرر العام مثل الاحتكار أو الضرر الخاص بأي شخص آخر.
والحديث عن أحكام وأخلاقيات ما بعد التعاقد لا يكفي فيه مقال قصير، ولكن قد تعطي هذه المقالة حافزا للباحثين بأن يولوا هذا الموضوع أهميته بالتأليف فيه لأهميته وقلة التأليف فيه.
خاص_الفابيتا