"التحول المحتمل للمواهب عبر الأطلسي على رادار المؤسسات العلمية الرائدة في المملكة المتحدة، و العديد من باحثى العلوم الأمريكيين يكتبون لنا، كيف نصل إلى بريطانيا؟! ... و نحن ننظم صفوفنا لاستقبالهم و توظيفهم بتوفير التمويلات و الموارد لأغلب الوحدات العلمية من الطب الحيوي إلى الذكاء الاصطناعي" ... هكذا علقت ـ ديبورا برنتيس ـ نائبة رئيس جامعة كامبريدج البريطانية لصحيفة فايننشال تايمز حول إجراءات تقليص الإنفاق الحكومي من قبل إدارة الرئيس ترامب و الذى يطال مجتمع البحث العلمى الأمريكى، لتأتى اصوات أخرى من داخل أوروبا بأن الدوائر العلمية فى ألمانيا و فرنسا و السويد تستعد بكل حماس و سرور لاستقطاب المواهب الأمريكية التى تعانى، فالمناخ السياسي فى الولايات المتحدة غير مشجع للبحوث العلمية المستقلة، و ذلك حسب ـ ماريا ليبتين ـ رئيسة مجلس البحوث التابع للاتحاد الأوروبي ... فضلا عن الصين التى أصبحت خيارا مطروحا بقوة على طاولة الباحثين الأمريكيين المهدد مستقبلهم فى العمل العلمى.
لكن ماذا جرى فى نهر الشهرين الماضيين من ولاية ترامب الثانية لتقفز تلك المشاهد التى تنبىء بتحول مهم فى النموذج الأمريكى بعد الحرب العالمية الثانية الذى يقوم على الدعم القوي من الدولة للعلم بشكل واسع كدافع اساسى للتفوق و النمو الاقتصادي الأمريكى؟!
أولا ... فى 20 يناير 2025 أصدر الرئيس دونالد ترامب أمرا تنفيذيا بإعادة تنظيم و تسمية"مكتب الخدمة الرقمية الأمريكى" المؤسس فى 2014 ليصبح وزارة الكفاءة الحكومية ككيان استشاري خاص يتبع المكتب التنفيذي للرئيس، تحت قيادة الملياردير ايلون ماسك و فريقه المكون من 40 فردا عملوا فى شركاته و لم يمارسوا العمل الحكومى من قبل، لتستهدف الوزارة الوليدة رفع كفاءة و إنتاج الحكومة بتحديث التقنيات الفيدرالية، و خفض الإنفاق الفيدرالى والدين الحكومي و إعادة هيكلة الوكالات التابعة و تقليص الوظائف للسيطرة على الهدر المفرط فى المال العام بالاقتصاد الأول عالميا.
ثانيا ... تبارى كلا من ترامب و ماسك فى استعراض أرقام التخفيضات فى الانفاق الحكومي، فصاحب تسلا أطلق عنان وعوده فى أول اجتماع أمام رئيسه بخفض تريليون دولار سنويا من الميزانية الفيدرالية التى تصل إلى 6.7 تريليون دولار، ليخفف ترامب مطلع مارس الجارى من الرقم إلى النصف حيث أشار إلى أن وزارة الكفاءة قدرت الهدر العام فى الميزانية بنحو 500 مليار دولار سنويا، ليلحقه ماسك بعدها بأيام عبر موقع الوزارة الرسمى بالاعلان عن توفير 105 مليار دولار من النفقات الحكومية عن طريق تقليص بعض الوظائف اللامنتجة و بيع أصول و مراجعة عقود و وقف منح و تغيير قواعد برمجية تابعة لعشرين وكالة فيدرالية.
ثالثا ... الاستهداف الأهم لحملة ترامب ماسك جاء من نصيب وازرة التعليم التى أعلن سيد البيت الأبيض عن تفكيكها فى 20 مارس 2025 بعد 46 عاما من تأسيسها، تلك الوزارة التى تشرف على محفظة قروض طلابية ضخمة للغاية تصل إلى 1.6 تريليون دولار، و التى تقلص عدد موظفيها بنحو 53% خلال أول شهرين فقط من ولاية ترامب الثانية ... سبق ذلك كله نشاط محموم من وزارة الكفاءة بإلغاء 89 عقدا بحثيا في معهد العلوم التربوية التابع لوزارة التعليم العالي بقيمة 900 مليون دولار، فضلا عن إلغاء منحاً وعقوداً لجامعة كولومبيا بقيمة 400 مليون دولار .
رابعا ... ما سبق كان جزءا من صدمات قيد التحضير فى جعبة وزارة الكفاءة التى تواجه عشرات الدعاوى القضائية ضد مشروعية وجودها من الأساس و هيكلة عملها و أغلب قراراتها التعسفية، و لكن لماذا كل هذا، خاصة ضد المؤسسات العلمية؟! ...
تأتى الإجابات المتنوعة من الداخل الأمريكى نفسه بدءا من سعى إدراة ترامب لفرض أجندة اليمين المحافظ بتغيير واسع لأولويات الانفاق على البحث العلمى فتتقدم أبحاث الذكاء الاصطناعي و التقنيات الحكومية و العسكرية على أبحاث البيئة و الصحة و الزراعة التى تشهد حضورا متزايدا من القطاع الخاص القائم على الربح لا على دعم الدولة ... مرورا بمناهضة ترامب و ماسك للعلوم الاجتماعية و البيئية الغير مدرة للربح و التى تؤثر سلبا على النموذج الاقتصادي الأمريكى من وجهة نظرهم، وصولا لفرض عقوبات ضمنية على الجامعات التى لا تتفق مع سياسة ترامب الخارجية فى قضايا تتعلق خاصة بالشرق الأوسط و الصين.
ختاما ... عواصف ترامب التى تضرب الداخل الأمريكى ما هى إلا فرع أصيل من حروبه التجارية التى يهدد بها العالم، و التى يراها ضرورية جدا لإطفاء حرائق الديون القياسية الأمريكية، و لكن فى خضم ذلك كله يجب أن يتذكر كلا من ترامب و ماسك ما قاله الفيلسوف الألمانى، كارل ماركس، بأن "الضرورة عمياء حتى تدرك وعيها، و الحرية هي وعي الضرورة" ... فالمعارك التى أنتما فى قلبها قد لا تنتهى بالضرورة لصالحكما و يمكن أن تذهب بحرية فى أى اتجاه، فماذا أنتم فاعلون؟!
خاص_الفابيتا