قاسية هي العبارات التي صدرت من أرمين بابيرغر، الرئيس التنفيذي لشركة «راينميتال»، إحدى كبرى الشركات الدفاعية في أوروبا. فخلال مؤتمر ميونيخ للأمن، صرح بابيرغر بأنه «إذا لم تستثمر، وإذا لم تكن قوياً، فسيتعاملون معك كالأطفال». وأضاف أنه «خلال مأدبة العشاء، فإن الكبار يجلسون على طاولة، بينما يجلس الأطفال على طاولة أخرى»، في إشارة صريحة إلى المفاوضات حول الحرب الروسية - الأوكرانية، التي خلت تماماً من الوجود الأوروبي أو حتى الأوكراني. وعكست هذه العبارات مشكلة طويلة الأمد، وهي فشل أوروبا في الاستثمار بشكل كافٍ في دفاعها، مما جعلها تلعب دوراً ثانوياً في الشؤون الأمنية العالمية، حتى في القضايا المتعلقة بمستقبلها الخاص، تاريخياً، كان الإنفاق الدفاعي الأوروبي متأخراً عن القوى العالمية الأخرى. ومنذ انتهت الحرب العالمية الثانية، اعتمد معظم الدول الأوروبية على حلف «الناتو» والولايات المتحدة لضمان أمنها. وخلال الحرب الباردة والعقود التي تلتها، حافظ العديد من دول الاتحاد الأوروبي على ميزانيات دفاع منخفضة نسبياً. وبعد أن كان الإنفاق الأوروبي على الدفاع يشكل نحو 4 في المائة من الناتج القومي في بداية الستينات الميلادية، انخفض هذا الرقم ليصل إلى أقل من 1.3 في المائة، ولم يرتفع هذا الرقم عن قاعه إلا بعد دخول روسيا إلى شبه جزيرة القرم عام 2014، ليرتفع بعدها بشكل تدريجي، ومن ثم بشكل حاد بعد بداية الحرب الروسية - الأوكرانية. ومع ذلك كله، لم يزد هذا الإنفاق على 1.9 أي نحو 326 مليار يورو.
وقد دفعت عدة عوامل إلى التعجيل بزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، حيث كانت تهديدات إدارة ترمب بسحب الضمانات الأمنية الأميركية من أوروبا بمثابة جرس إنذار للقادة الأوروبيين. وقد أكد ترمب مراراً أن الولايات المتحدة لن تحمي حلفاء «الناتو» إذا لم يستثمروا المزيد في الدفاع، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن بدائل. وحذر وزير الدفاع الأميركي مؤخراً من أنه على الأوروبيين ألا يفترضوا أن الوجود العسكري الأميركي في أوروبا سيستمر إلى الأبد! ويكفي لهذا التصريح أن يدق ناقوس الخطر لدى القادة الأوروبيين.
لكن أوروبا تحتاج إلى الكثير لتدافع عن نفسها دون الحاجة إلى أميركا. فوفقاً لدراسة حديثة، سيحتاج الاتحاد الأوروبي إلى 300 ألف جندي إضافي، و1400 دبابة جديدة، و2000 مركبة قتال مشاة، إضافة إلى نحو 700 قطعة مدفعية وأنظمة دفاع جوية محسّنة. وتزيد هذه القوة على تلك الموجودة حالياً في القوات البرية المشتركة لكل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة.
وقد قدّرت الدراسة أن أوروبا ستحتاج إلى إنفاق إضافي قدره 250 مليار يورو سنوياً على الدفاع، مما يعني مضاعفة إنفاقها الدفاعي الحالي ليصل إلى ما بين 3.5 في المائة و4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ولتمويل هذا الاستثمار الضخم، يستكشف القادة الأوروبيون عدة خيارات تمويلية، وقد اقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إعادة توجيه 93 مليار يورو من الأموال غير المستخدمة من صندوق التعافي من الجائحة نحو القطاع الدفاعي. كما يجري النظر في إنشاء صندوق مشترك بقيمة 500 مليار يورو لمشروعات الدفاع المشترك وشراء الأسلحة.
ولكن دول الاتحاد الأوروبي ليست على قلب رجل واحد، فألمانيا على وجه انتخابات جديدة ولا يمكنها طرح موضوع زيادة التمويل الدفاعي في مثل هذا الوقت، وبعض دول الاتحاد الأوروبي نفسها محايدة أو صديقة لروسيا، مما جعل الاتحاد يبحث إمكانية إنشاء آلية تمويل حكومية دولية للدفاع، يمكن أن تشمل مشاركة دول غير أعضاء في الاتحاد مثل المملكة المتحدة والنرويج. وكل ذلك من أجل التحايل على حق النقض (الفيتو) الذي قد يستخدمه بعض هذه الدول، كما أن الدول المحافظة مالياً مثل هولندا والدنمارك تعارض فكرة اقتراض الاتحاد الأوروبي المشترك لتمويل الدفاع.
كما أن بعض الدول الأوروبية ستستفيد أكثر من البعض الآخر في حال زيادة الإنفاق الدفاعي، فمن المتوقع أن تحصد ألمانيا وفرنسا، بوصفهما لاعبين رئيسيين في صناعة الدفاع، فوائد اقتصادية كبيرة، كما يمكن أن تستفيد كل من إيطاليا وإسبانيا، اللتين تمتلكان أيضاً قطاعات دفاعية قوية من الاستثمارات المتزايدة في المشروعات الدفاعية المشتركة، ويزيد ذلك من صعوبة تقبل الدول الأوروبية الأخرى زيادة الإنفاق الدفاعي.
إن الاعتماد العسكري الأوروبي على الولايات المتحدة قد شارف على الانتهاء، ومَن راهن في ولاية (ترمب) السابقة على أن التيار الشعوبي الأميركي مرتبط بترمب فحسب، اصطدم بنائب رئيس شاب من التيار نفسه قد يكون الرئيس المقبل، أي استمرار هذه السياسة الأميركية سنوات وسنوات، ويتضح مما يحدث اليوم أن ميزانيات الدول الأوروبية ستشهد معاناة جديدة خلال السنوات المقبلة. واللافت للنظر، أنه بعد أنْ توجهت أنظار العالم إلى الانفصال الاقتصادي بين الشرق والغرب، جاءت الأحداث لتسلط الضوء على انفصال عسكري بين جانبي الأطلسي، وهو أمر لم يكن ليكون، لولا وجود بوتين.
نقلا عن الشرق الأوسط