مرئيات حول طرق قياس الأثر الاقتصادي والتنموي

18/02/2025 0
د. أحمد درويش

تطرقنا في مقال سابق عن أهمية ملاحظة الفرق بين مفهومي النمو والتنمية، وفي هذا المقال سنحاول التطرق بشكل عام لبعض الملاحظات المهمة عند قياس الأثر الاقتصادي والتنموي وبعض المرئيات من واقع خبراتنا والممارسات التي لاحظناها والتي قد تساعد متخذي القرار والمسؤولين في القطاع الحكومي والخاص على حد سواء لبناء أطر قياس الأثر الاقتصادي والتنموي بشكل فعّال وأكثر دقة، أصبح مفهوم قياس الأثر متداول بشكل كبير مع المبادرات والبرامج التي تم إقرارها من خلال رؤية المملكة 2030، وهو نهج مهم ومتبع من قبل عدد من المنظمات الدولية وفي كثير من دول العالم التي تحرص على التخطيط ومتابعة التنفيذ للخطط التنموية والاقتصادية ورفع كفاءة الانفاق وإدارة أداء الاقتصاد بصورة أفضل وبشموليه أوسع. ولتوضيح أهمية قياس الأثر لنأخذ على سبيل المثال تقييم أثر بناء الشوارع والطرق وسدود المياه والمناجم وغيرها، والتي آثارها الإيجابية لا غبار عليها، ولكن قد يكون لها آثار سلبية أيضا، حسب ظروف المكان والزمان.

فمن ناحية هي تساهم في تحسين البنية التحتية وخلق وظائف وإنتاج طاقة وزيادة الموارد المتاحة، ولكن من ناحية أخرى قد تتسبب في آثار سلبية على البيئة والصحة العامة والمجتمعات المحيطة، ولكن يبقى السؤال عن حجم الأثر وطبيعته ومدته وكيفية التعامل مع المخاطر المحتملة وإدارتها. فمن هنا تنبع أهمية عمل تحليل للأثر الاقتصادي والتنموي قبل البدء بمشروع ما، أو إقرار سياسة اقتصادية أو تنموية ما، لتعظيم العائد من تلك المشاريع أو الحد بقدر المستطاع من الآثار السلبية المحتملة، وإيجاد موازنة جيدة تساهم في تحسين كفاءة الانفاق وفعالية التخطيط وإدارة المخاطر المحتملة بشكل أفضل. فلعلنا نطرح بشكل مختصر في هذا المقال أهم النقاط التي قد تكون مفيدة لأصحاب العلاقة من متخذي قرار أو فرق فنية ومسؤولي إدارات تقييم وتحليل الأثر عند إعداد أو بناء أو تبني نماذج وأطر قياس وتقييم الأثر الاقتصادي والتنموي.

ولعل من أولى الملاحظات المهمة هو ما يتعلق حين التخطيط لإجراء تقييم الأثر وأهمية تحديد الهدف الاستراتيجي للجهة أو المنظمة التي تحتاج مثل هذه النماذج، خصوصا إذا كان الهدف تنموي أكثر من كون الجهة تستهدف نمواً في الدخل أو الاستثمارات كتلك الناتجة من حجم مبيعات أو عمليات أو أنشطة معينة، والتي يمكن حساب عائد كمي لها بشكل جيد على المدى القصير والمتوسط. ومن الأمثلة التي غالباً ما يقع المحللون في الخطأ فيها هو عندما يتم مقارنة الأثر لجهة معينة على المدى القصير بأنها لم تساهم في النمو الاقتصادي خلال عام ما، على سبيل المثال، بينما الهدف من تلك الجهة أو المنظمة هو تنموي طويل المدى يستهدف على سبيل المثال، تحسين معدلات الإنتاجية في القطاع من خلال التدريب وتبني تقنيات جديدة، فبالتالي تحسين عملية الإنتاج من رأس المال البشري والرأسمالي، وتعتمد على توافر الموارد وعلى معدل استجابة سلوكية مختلف لتحسين الإنتاجية، والتي قد تحتاج لوقت أطول ليتضح الأثر التنموي أو حتى الاقتصادي منها.

وتقودنا الملاحظة الأولى أعلاه لأهمية استخدام الإطار أو النموذج المناسب لقياس الأثر، فهناك الكثير منها ولكن المتداول بشكل متكرر هو ما توفره الشركات الاستشارية والمعتمد على المضاعف الاقتصادي، وبنسبة أقل نماذج الاقتصاد القياسي الديناميكي. فعند قياس الأثر الاقتصادي على المدى القصير، قد تعطي كلا النوعين نتائج متقاربة، ولكن طريقة المضاعف الاقتصادي تفتقد للأخذ في الحسبان العوامل الأخرى التي تؤثر على النتائج والأثر في المدى المتوسط والطويل، كاحتمالية تغير الأسعار وبيئة الاعمال المحلية والخارجية وغيرها. فبالتالي، يتم إما المبالغة في حساب الأثر (في أغلب الأحيان) أو عدم الدقة بسبب اغفال عوامل الارتباط مع القطاعات الأخرى وديناميكية الاقتصاد ومتغيراته عند استخدام طريقة المضاعف أو المضروب الاقتصادي، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات أحادية، ليكتشف متخذ القرار أن الاستراتيجية لم تحقق النتائج التي تم اعتمادها بناء على النموذج الخاطئ الذي تم استخدامه في التحليل. وهذا لا يعني أن نتائج نماذج الاقتصاد القياسي يجب أن تكون دقيقة جدا، ولكن تحتاج لخبرات جيدة عند بناءها وتغذيتها ببيانات صالحة، وأن يتم اختبار جودة مخرجاتها قبل اعتماد النتائج لوضع الأهداف في أي استراتيجية.

وقبل توضيح بعض الملاحظات عند قراءة نتائج قياس الأثر، من المهم الإشارة إلى ما يجب على متخذي القرار من فهم القطاع الاقتصادي الذي يعمل فيه، وكيفية ترابط القطاعات الاقتصادية ببعضها البعض بشكل وثيق، فبالرغم من أنه عادة ما يُؤخذ بتلك العلاقات في النماذج الاقتصادية، إلا أن كل قطاع اقتصادي له ميزاته النسبية ويتأثر بظروف واقع الاقتصاد ومحددات التنمية التي تحيط بعوامل الإنتاج والعرض والطلب ودورة الاعمال التي يمر به الاقتصاد في مرحلة ما، ومن ثم يُستنتج الأثر الناتج من الأنشطة ذات العلاقة لكل قطاع. ولإيضاح الفكرة بشكل أفضل، لنأخذ على سبيل المثال مبادرتين أو برنامجين، الأول لدعم التنمية الاجتماعية والآخر لدعم مستوى الصادرات السلعية. فالأثر المباشر للبرنامج الأول سيكون غالبا متوجه لدعم دالة الاستهلاك، أما للبرنامج الثاني لرفع مستوى الصادرات وتحسين الميزان التجاري. ولكن عند تتبع العملية الاقتصادية سنرى أن هناك عوامل ومتغيرات مهمة أخرى قد تأثرت أيضا كمستوى الواردات التي يحتاجها الاقتصاد لدعم عمليتي الاستهلاك الاجتماعي وكذلك عملية الإنتاج للسلع التي ستصدر، فهل الأثر الناتج لكلا البرنامجين أعطى نتائج كما هو متوقع؟ أو حتى يمكن الموازنة بينهما على ذات الفترة ولذات الأهداف الاستراتيجية التنموية والاقتصادية. بالطبع سيعتمد على تحليل الأثر على المدى الزمني وكذلك صافي الأثر على الناتج المحلي الإجمالي عند النظر لمستهدفات النمو على المدى القصير والمتوسط، والذي سيكون أكثر وضوحا لبرنامج دعم الصادرات على سبيل المثال، ومن جهة أخرى عند النظر لتحسين جودة الحياة ومستويات الصحة والتعليم كمستهدفات للتنمية على المدى الطويل، والتي تركز عليه برامج التنمية. بالطبع لا ننسى التداخلات بين البرنامجين، فمع تحسن مستويات الصحة والتعليم كركائز يعتمد عليها البرنامج التنموي، تتحسن مستويات المساهمة في عامل الإنتاج الأهم وهو رأس المال البشري، والذي بدوره يحسن من عملية انتاج السلع، ومنها على سبيل المثال تلك السلع القابلة للتصدير، ومع تحسن العائد والدخل من الصادرات وإعادة تدويرها في الاقتصاد بصورة أو أخرى تتحسن المستويات الكلية للنمو والتنمية، ونترك للقارئ تتبع أو التفكير في كيفية ترابط برامج التنمية مع برامج أخرى.

وقد يكون من المهم التنبيه هنا إلى كيفية النظر أو اعتماد الأثر المباشر وغير المباشر والمستحث عند إعداد مستهدفات جهة أو منظمة ما. فالأثر المباشر قد يكون هو الأهم، ويفضل ألا يُغفل عن الآثار غير المباشرة والمستحثة عند تحليل النتائج الكلية، مع مراعاة عدم المبالغة في حجم الأثر الكلي، وتجنب ما أمكن الاخذ بالآثار غير المباشرة والمستحثة عند اعتماد الأهداف الاستراتيجية. فمن الأهمية بمكان النظر للنوعين الآخرين كمكمل بالأخص أن المبادرات وكل ما يخص تلك الآثار سيكون على الاغلب من ضمن مهام جهات أخرى من الصعب التحكم بها أو استهدافها، وستكون محسوبة كأثر مباشر لتلك الجهات الأخرى. ومن المخاطر التشغيلية أنه عند تقييم الجهة فسيتم النظر للجهة فيما يخص حساب الأثر بعد فترة أنها لم تنجز بالرغم من الأداء الجيد أو المميز في الأثر المباشر، علاوة على ذلك، أنها ستكون حسابات مكررة لمتخذ القرار في المنظومة الاقتصادية سواء في مركز الحكومة او الإدارة الإقليمية لمنظمة كبيرة. ولتوضيح الفكرة بشكل أفضل، نذكر هنا مثال لإحدى الدول الآسيوية والتي اعتمدت أن تقوم الحكومات المحلية بإعداد مستهدفاتها بناء على حساباتها للآثار الاقتصادية والتنموية، ومن ثم تقوم الحكومة المركزية بتوزيع ميزانية خاصة لتحقيق تلك الأهداف. في المنظور القريب، بدى أن تحقيق الأهداف بناء على الميزانيات المقترحة ممكنا، ولكن بعد فترة من الزمن أتضح أن هناك مبالغة في وضع الأهداف وأن الميزانيات التي تم رصدها لكل حكومة محلية لم تؤد لتحقيق النتائج التي تم وضعها، بالرغم من استقرار الحالة الاقتصادية، ولم ينعكس أداء الحكومات المحلية على المؤشرات الاقتصادية والتنموية للدولة بشكل عام، وبالتالي أثر على مستوى الفعالية والعملية الإنتاجية التي سنحاول تسليط الضوء عليها في مقال قادم.

ويقودنا المثال الأخير إلى التنبيه لأمور أخرى مهمة، لُوحظت في بعض الممارسات، وهي استخدام مؤشرات لدول أخرى، دون مراعاة في بعض الأحيان للظروف الاقتصادية والديموغرافية والسياسية لتلك الدول، والذي في الأغلب يُفضل فقط الاستدلال بها كمقارنة ولكن ليس لوضع الهدف الاقتصادي والتنموي بشكل أساسي. ومن الأمور المهمة الأخرى هو اعتماد مؤشرات قد تكون بذات الأهمية لمؤشرات الأثار الاقتصادية والتنموية، وهي تلك المؤشرات الخاصة بالأداء والاستدامة المالية، فبدون توفرها قد لا يمكن الاستمرار في عملية تمويل الاستراتيجيات المقترحة في المستقبل. فعلى سبيل المثال، لو أن شركة ما وضعت أهداف طموحة وقد تبدو ممكنه وستساهم لنمو وتوسع أعمال الشركة بشكل كبير وتحسين منافستها في السوق، ولكن لم تكن هناك استراتيجية واضحة لتلك الشركة لكيفية تمويل هذه الاستراتيجية واعتمدت على الاستدانة بحجم خدمة لمبالغ الدين تفوق العائدات التشغيلية والاستثمارية، فماذا سيكون وضع تلك الشركة!

ولا ننسى أهمية التدقيق فيما يتعلق بجودة المخرجات وأهمية توفر إطار جيد لمراقبة المبادرات وأثرها وعدم الاعتماد على نتائج الأثر من هذه النماذج، لأنها في النهاية تحمل معدلات من الخطأ والصواب وتحتاج المبادرات التي يتم تحديدها ويُتخذ قرار لاعتمادها أن تحتوي على قائمة بالمخاطر المحتملة من تنفيذها وماهي عوامل تخفيف تلك المخاطر والبدائل الممكنة للمبادرات المقترحة في حال الاكتشاف المبكر أنها لم تعد صالحة، لضمان استمرارية العمل وتجنب فقدان الثقة من قبل أصحاب المصلحة في الخطط القائمة.

وأخيراً وليس آخراً، قد يُغفل في بعض الأحيان عن أهمية توفر استراتيجية للتواصل تكون مدروسة بشكل جيد وتحتوي على خطوط للعودة وإمكانية المراجعة. فالتواصل بخصوص نتائج الأثر الاقتصادي والتنموي، يجب أن يكون مدروسا بشكل جيد، لأنه حين الإعلان عنه ستكون تلك الجهة أو الشركة تحت انظار المستثمر أولا والجهات التنظيمية (الحكومية أو الخاصة) وكذلك المواطن والمقيم، وما لذلك من تأثير محتمل في مستويات الثقة والسمعة وعلى بيئة الاعمال والمناخ الاقتصادي والتنموي على حد سواء.

ولربما نختم ببعض الأسئلة المهمة التي قد تكون مفيدة للمقدمين على تبني أي طريقة أو نموذج لتقييم الأثر الاقتصادي أو التنموي لتمثل نقاط رئيسة لتعظيم الفائدة وتحسين مخرجات هذه النماذج. ومن هذه الأسئلة: ما هو الهدف الأساسي لقياس الأثر، هل هو لقياس أثر تنموي أو قياس مساهمة في معدل النمو الاقتصادي؟ هل تتوافق مخرجات النموذج مع المؤشرات الاقتصادية الكلية؟ على سبيل المثال، هل مخرجات النموذج لخلق عدد الوظائف يتوافق مع معدلات خلق الوظائف ومعدلات البطالة في الاقتصاد أم أن هناك مبالغة؟ هل تم الأخذ في الحسبان جميع ما يمكن احتسابه من عوامل ثانوية وخارجية عند تقييم الأثر، بالأخص عند استخدام نموذج المضاعف أو المضروب؟ هل معدل المضاعف الاقتصادي للأثر على النمو الناتج من النموذج واقعي؟ أم أن هناك مبالغة لا يستطيع الاقتصاد استيعابها؟

 

 

خاص_الفابيتا