علم الاقتصاد في عصر الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة

17/10/2024 0
د. زياد بن خالد الناهض

أصبح ملاحظاً أن حجم وتعقيد البيانات الاقتصادية يتزايدان بشكل مطرد مع ثورة البيانات، وتسارع اتجاه الاقتصاد نحو الاقتصاد الرقمي. هذا النمو الهائل في البيانات لابد أن تواكبه تطورات في تقنيات حديثة لتحليلها، والاستفادة منها بأفضل طريقة ممكنة. لأجل ذلك، برزت أهمية الذكاء الاصطناعي، وتعلم الآلة في إنتاج أدوات جديدة يستخدمها المختصون في الاقتصاد للتعامل مع الثورة المعلوماتية، الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence Ai) مصطلح يُتداول بكثرة في الآونة الأخيرة، ويمكن تعريفه بأنه مجموعة من الأنظمة التي تحاكي الذكاء البشري في قدرات التعلم، والتحليل، وتطوير الأنظمة ذاتيًا. كذلك يعد تعلم الآلة (Machine Learning ML) فرعاً من الذكاء الاصطناعي يهتم بتعلم الأنماط من البيانات.

أحد التطبيقات البارزة لتعلم الآلة في الاقتصاد هو تحسين قدرة النماذج الاقتصادية القياسية على التنبؤ. فالنماذج الاقتصادية القياسية التقليدية غالبًا ما تكون على فرضيات إحصائية مسبقة تتبناها نماذج الاقتصاد القياسي، مما يجعلها محدودة في قدرتها على التعامل مع التعقيد، وعدم اليقين في البيانات. ولأجل ذلك، تبرز أهمية وفائدة استخدام خوارزميات تعلم الآلة، في تمكين النماذج الاقتصادية من تعلم الأنماط المتكررة من البيانات الضخمة بما يسهم في تحسين دقة التنبؤات الاقتصادية. على سبيل المثال، فيما يتعلق بالتنبؤ بالمتغيّرات الاقتصادية الكلية، كالنمو الاقتصادي. تستخدم خوارزميات تعلم الآلة لتحليل البيانات الضخمة المتباينة في مدى تكرارها، اليومي، والشهري، والربعي، بما يسمح باستخلاص نتائج من الأنماط المتكررة في المؤشّرات الاقتصادية وتطوير نماذج تنبؤية كلية أكثر دقة.

وبالنظر إلى تطبيقات تعلم الآلة في التنبؤ الاقتصادي على مستوى علم الاقتصاد الكلي، فقد أسهمت التطورات في تعلم الآلة بشكل كبير في تحسين نماذج التنبؤ. على سبيل المثال، تم دمج آليات تعلم الآلة مع تقنيات مثل Kalman Filter، المستعارة من حقل معالجة الموجات والإشارات في الهندسة الإلكترونية، لتقدير نماذج (VAR) Vector Autoregression. هذه النماذج تساعد في تقدير الأنماط غير المشاهدة في البيانات الاقتصادية، كالصدمات الكلية من جانبي العرض والطلب الكلي، على سبيل المثال، مما يسمح بتقدير نماذج لا خطية. يمكن لهذه النماذج تقدير التغير الزمني في حجم الصدمات الاقتصادية، مثل صدمات العرض الكلي والطلب الكلي، وصدمات السياسة النقدية والأسواق المالية هذه النماذج تتخلى عن بعض الفروض في الاقتصاد القياسي التقليدي، كالتخلي عن فرضية ثبات التباين على سبيل المثال، حيث تعد الصدمات الاقتصادية من وجهة نظر قياسية مكونات غير مرصودة (Unobserved Components) يمكن أن تؤثّر بشكل كبير على الاقتصاد. تقوم تقنيات تعلم الآلة عبر دمجها مع الإحصاء البيزي بتحديد وقياس التغير الزمني في هذه الصدمات من خلال تحليل الأنماط والشذوذ في البيانات التي لا يمكن قياسها من خلال طرق الاقتصاد القياسي التقليدية. ومن هنا تبرز أهمية حقل الاقتصاد القياسي البيزي (Bayesian Econometrics) الذي يدمج تقنيات تعلم الآلة مع علم الإحصاء البيزي، مما يجعله مناسباً للتعامل مع النماذج اللا خطية الأكثر تعقيداً، والبيانات الضخمة، والبيانات التي تحتوي على عدم يقين كبير.

كذلك بالنظر إلى التطبيقات على الجزئي، أي على مستوى دراسة السوق، يمكن لتعلم الآلة تحليل ودراسة جانب الطلب عبر معالجة البيانات الضخمة التي تتضمن بيانات تفصيلية حول الشراء والسلوك الاستهلاكي، بما يسمح بتحديد الأنماط التي يمكن استخدامها لتوقع الاتجاهات الاستهلاكية المستقبلية. هذا يساعد الشركات في تطوير سلاسل إمدادها، وتحسين استراتيجياتها التسويقية وزيادة رضا العملاء، رفع دقة تقدير وقياس أثر السياسات الاقتصادية يمثّل هاجساً مهماً في صناعة السياسات الاقتصادية. لأجل ذلك يمكن استخدام خوارزميات تعلم الآلة لمحاكاة النتائج المتوقعة للسياسات الاقتصادية عبر معالجة وتحليل البيانات الضخمة، مما يوفّر تغذية راجعة، وتوصيات تساعد صناع السياسات على اتخاذ قرارات اقتصادية متوازنة من خلال تقديم تحليل شامل وسريع للبيانات. هذا يسهم في تحسين جودة القرارات الاقتصادية، وتقليل المخاطر.

من جانب آخر، يمكن استخدام نماذج تعلم الآلة في تقييم فعالية السياسات الاقتصادية من خلال تحليل البيانات بشكل آني، وتتبع نتائج السياسات المطبقة ومقارنتها بالنتائج المتوقعة. هذا التقييم المستمر يساعد صناع السياسات على فهم السياسات الفعّالة، وتلك التي تحتاج إلى تعديلات، مما يضمن عملية الحوكمة، ويرفع من مستوى كفاءة السياسات. فعلى سبيل المثال، يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي مثل معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing) تحليل البيانات الضخمة المتاحة على هيئة بيانات نصية متعدد المصادر، مثل الأخبار الصحفية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي والتقارير الاقتصادية، وغيرها، بما يسمح بقياس تصورات الجمهور حول القضايا الاقتصادية، والتي يمكن أن تؤثّر على فعالية القرارات الاقتصادية.

باختصار، يشهد علم الاقتصاد - وخصوصاً في جانب الدراسات التطبيقية - وأساليب الاقتصاد القياسي تطوراً متسارعاً مع تطور الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة. تلعب هذه التقنيات دوراً مهماً في تحليل البيانات الاقتصادية، وتقديم رؤى دقيقة تساعد في اتخاذ القرارات الاقتصادية. أبرز هذه التقنيات تتمحور حول تطوير أساليب جديدة لمعالجة البيانات الضخمة التي لا يمكن التعامل معها في النماذج الاقتصادية القياسية التقليدية، وكذلك استخدام تقنيات تعلم الآلة لتطوير نماذج قياسية أكثر مرونة تسمح بتقدير الأنماط غير المشاهدة في البيانات، كتقدير الصدمات الاقتصادية الكلية بشكل متغير زمنياً، أي بعبارة أخرى، السماح بالتخلي عن افتراض ثبات التباين في الاقتصاد القياسي التقليدي.

والمستقبل في هذا المجال يبدو واعداً بتحقيق تقدم كبير في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل معالجة اللغات الطبيعية، في النماذج الاقتصادية. هذا التقدم يسمح باستخدام بيانات جديدة لم تكن تُستخدم سابقاً من قِبَل الاقتصاديين، وأبرز الأمثلة هو السماح بدمج البيانات الضخمة ضمن مدخلات نماذج الاقتصاد القياسي. ولا شك أن هذه التطورات ترفع من قدرة المختصين في الاقتصاد على تقديم رؤى وحلول أكثر دقة للمشاكل الاقتصادية، وتسهم في قدرتهم على تقييم أثر البرامج والسياسات الاقتصادية بشكل أمثل. وبالتالي فإن هذه التطورات السريعة تستدعي من المتخصصين في الاقتصاد السعي للتطوير الذاتي لمواكبة هذه التطورات العلمية في مجالهم. إضافة إلى الحاجة لتطوير البرامج الأكاديمية في علم الاقتصاد في عصر الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، للتأكد من مواكبتها للتطورات الحديثة في ثورة علم البيانات بما فيها مفاهيم وتطبيقات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي ذات العلاقة بالاقتصاد القياسي.

 

المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد سبتمبر 2024