شهدت حقبة الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي اندلاع ما سمي اختصاراً « حرب النجوم» التي اطلقها الرئيس الامريكي رونالد ريغان إبان الحرب الباردة بهدف إسقاط الكتلة الشيوعية من خلال إقحام الاتحاد السوفيتي بسباق تسلح هدفه ايجاد ضغط اقتصادي على موسكو؛ حيث حولت أغلب مواردها للتسليح وهو الفخ الذي نصبه لهم بإحكام وأثمر بنهاية المطاف عن تنازلات سوفيتية بانهيار جدار برلين وتوحيد الالمانيتين الغربية والشرقية، وهو الحدث الذي ألهم الجمهوريات المنضوية تحت الاتحاد السوفيتي لتنفصل عن موسكو ويتفكك الاتحاد عام 1991 ومن بعد ذلك استكمل انهيار كل المنظومة الشيوعية بدول اوروبا الشرقية لتنتهي معها الحرب الباردة وتنفرد اميركا بالمركز الأول من حيث القوة اااقتصادية والسياسية والعسكرية في العالم، ولذلك يعد ريغان أعظم رؤساء أميركا؛ لأنه حقق انتصاراً ساحقاً على غريمه الشيوعي دون أن يخوض معه حربا عالمية ثالثة، كما كان متوقعاً لحسم حالة العداء بينهما.
أما في المرحلة الحالية فقط ظهر نوع جديد من المواجهة الامريكية مع منافسيها على التجارة الدولية، وأيضاً على المركز الأول بحجم الاقتصاد العالمي، وذلك مع الصين تحديداً، وتتركز هذه المواجهة بسلاح رئيسي يتبنى فكرته ويعمل على تطبيقه الرئيس الحالي دونالد ترمب الذي أكمل عشرة أيام في ولايته الثانية، وقد اطلق وعودا وتهديدات عديدة باستخدام الرسوم ضد عدة دول وتكتلات اقتصادية، وذلك لحماية مصالح اميركا كما يبرر ذلك بتصريحاته أثناء حملته الانتخابية، وبالفعل بدأت اول حزمة منها اعتباراً من بداية فبراير ضد كندا والمكسيك بواقع 25 بالمائة على صادراتهما لأميركا والتي تمثل أكثر من 75 بالمائة من صادرات الدولتين خارجياً أي أن الضرر سيكون كبيراً، كما فرض رسوماً بواقع 10 بالمائة على سلع صينية والتي تعد الشريك التجاري الأكبر لأميركا وتصدر لها سنوياً بما يقارب 600 مليار دولار. وبذلك يكون الرئيس ترمب أعلن رسمياً بداية حقبة « حرب الرسوم» سلاح اميركا الجديد الذي يهدف لتحقيق عدة منافع منها، مثل خفض العجز بالميزان التجاري وأيضاً نقل خطوط الانتاج لأميركا وزيادة الطلب على المنتج المحلي وصولاً لتحقيق فائض بالميزان التجاري مع العالم إضافة لمنافع أخرى تتعلق بإعادة هيكلة الإنفاق الفيدرالي ولجم تضخم الديون السيادية، وتحقيق مكاسب سياسية من بعض الدول الحدودية خصوصاً بوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين لبلاده، وكذلك محاربة عصابات المخدرات التي تستخدم تلك الدول للدخول لأميركا السوق الأكبر لها، والأهم هو حماية الدولار ليبقى العملة الرئيسية في العالم؛ فهو أحد أهم ركائز استمرار اتحاد ولاياتها وقوتها الخارجية.
لكن، هل سلاح الرسوم يمكن مقارنته بحرب النجوم الذي كان موجهاً ضد دولة واحدة وهي بالأصل كانت مرهقة اقتصادياً فكان سباق التسلح مجرد الشعرة التي قصمت ظهر البعير؛ حيث كان يوصف الاتحاد السوفيتي برجل ضخم البنية لكن على أرجل ضعيفة أي أنه كان جاهزاً للسقوط بأي لحظة بينما في الوقت الحالي فإن ترمب يوجه حربه ضد الصين، منافس أميركا الأبرز اقتصادياً وضد شركائه الاوروبيين وضد كندا والمكسيك وأي دولة قد يواجهها حول أي مصالح أميريكية؛ فهذا السلاح ذو حدين له خطر أولي سيؤذي المستهلك الأمريكي؛ ففي ولايته الأولى فرض رسوم على الصين رفعت تكلفة المعيشة على الأسر الامريكية بواقع ألف دولار سنوياً وهو رقم كبير عند النظر لمجموعه الكلي رغم أن الرسوم كانت على بعض السلع وليس كما يهدد حااياً ويتوسع لدول أخرى، بل إنه هدد مجموعة بريكس بفرض رسوم 100 بالمائة اذا اطلقوا عملة خاصة بينهم وهو امر نفاه الكرملين فوراً بأنه لا احد تحدث عن عملة جديدة، وكأن ترمب بدون قصد أوضح حقيقة مخاوف ومخاطر كبيرة تواجه الدولار وأميركا عموماً بالمستقبل وإلا كيف يطلق تهديدا ضد امر لم يتحدث عنه أحد !! أما الخطر الآخر فهو اندلاع حرب تجارية تقوض فرص استعادة نمو الاقتصاد العالمي وتدمر كل ما عمل لكبح التضخم عالمياً بعد أزمة كورونا وحرب روسيا أوكرانيا، وتنهي معها اهمية منظمة التجارة العالمية وتنسف كل ما أنجز لتنظيم التجارة بين الدول.
يهدف ترمب لإبقاء أميركا الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وجعل سوقها واقتصادها مقصد المستثمرين بتقديم بعض الحوافز لمن ينتقل للتصنيع داخلياً معتمداً على ضخامة الطلب فيه، بالاضافة لعوامل القوة الأخرى، وذلك لإنقاذ بلاده من فقدان مكانتها الحالية في المستقبل لصالح منافسين عدة وايجاد حلول لملفات اقتصادية داخلية عديدة ولذلك يستخدم سياسة كسر العظم وهو ما يعكس حالة امريكية معقدة كي تحافظ على ريادتها الدولية، لكن قد يكون من المخاطر المحتملة والواردة أن تتحرك الدول التي يواجهها تدريجياً لتبتعد عن السوق الامريكي وترفع من حجم تركيزها على شراكات واسواق أخرى، وتصبح اميركا معزولة خلال عقدين قادمين ولايتحقق شعار اميركا أولاً بل تكون تلك السياسة هي سبب فقدان مكانتها المتفوقة الحالية، والأربعة أعوام القادمة هي من ستوضح اي كفة سترجح: المكاسب أوالخسائر من حرب الرسوم!
نقلا عن الجزيرة