منتصف 1870، تمكّن ما يزيد عن 500 مدفع بروسي من ضرب الجيش الفرنسي في معركة سيدان الفاصلة، التي انتهت بوقوع الإمبراطور الفرنسي أسيرا لدى الجيش البروسي ورضخ لشروط المستشار الألماني أوتو فون بسمارك، بعد الحرب الفرنسية الألمانية في 1870، طالبت ألمانيا فرنسا بتعويض قدره 200 مليون جنيه إسترليني من الذهب، وقررت الانتقال من معيار الفضة في سك العملة إلى معيار الذهب، والسبب وراء إقرار ألمانيا لعملة قائمة على الذهب وحده وليس المعدنين معا يعود إلى أن حجم العملات المعدنية المتداولة في ألمانيا لم يكن كافيا وحده لدعم نظام المعدنين العالمي، ما يعني أن ألمانيا كانت تحتاج إلى استمرار فرنسا في الحفاظ على الرابط بين المعدنين، قبل دفع الدية. لذلك تحولت ألمانيا بالكامل إلى الذهب، فقد كان خيارها الوحيد لتجنب العزلة النقدية ودون التقيد بقرارات فرنسا.
ولم يقتصر الأمر على ألمانيا، فقد استغلت البلدان الإسكندنافية وهولندا نفس الفرصة للتحول من الفضة إلى الذهب. وفي وقت كانت دور السك الفرنسية تعتمد المعيار الثنائي للعملة (تقبل الذهب أو الفضة وفقا لمعدل ثابت بينهما) وكانت مفتوحة مجانا أمام الفضة، فقد قامت دور السك الألمانية (مع تحولها للمعيار الذهبي فقط) في إرسال فائضها من الفضة إلى دور السك الفرنسية لسكها (وتأخذ في مقابلها فرانكا فرنسيا)، ولأن فرنسا المهزومة لم تكن راغبة في مثل هذا الدعم للاقتصاد الألماني المنهك فصدرت القوانين الفرنسية بالتوقف عن سك الفضة في 1873 وأغلقت دور السك تماماً أمام الفضة في 1876، لتفقد الفضة أكثر من ربع قيمتها أمام الذهب.
وفي الوقت نفسه تقريباً أغلقت الولايات المتحدة دور السك أمام الفضة أيضاً، وبهذا انفصل المعدنان النقديان عن بعضهما بعضا للمرة الأولى في تاريخ العالم، وبدأت تجربة معيار الذهب فقط لسك العملة في العالم. وفي السياق نفسه عملت بريطانيا خلال استعمارها للهند على تدمير قيمة الفضة، أولاً بإغلاق دور السك الهندية أمام الفضة في 1893، وبوضع الروبية في وقت لاحق على أساس الذهب وإجبار مخزون الحكومة الهندية من الفضة على دخول السوق، ولقد تسبب هذه الإجراءات والقوانين في خفض ثروات وأموال نحو نصف سكان العالم، بل في إفقارهم.
بصعوبة استطاع الاقتصاد العالمي تجاوز أزمة الحرب الألمانية الفرنسية ونتائجها، وبدأت العملات الورقية تغزو العالم، لكن الحرب العالمية الأولى أدت إلى تراجعت الثقة في العلاقة بين الورق والذهب تدريجياً، وحل معيار تبادل العملات (الصرف) الذهبي (أي التزام الحكومات باسترداد أموالها إما بالذهب أو بعملة أجنبية أخرى يمكن استردادها بالذهب) محل معيار الذهب الصارم كقاعدة.
ثم بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت اتفاقية بريتون وودز التي أنشأت صندوق النقد الدولي وبدأت تقضم دور الذهب مقابل الدولار، حيث اشترطت إمكانية تحويله إلى ذهب بالنسبة للولايات المتحدة فقط، ولأغراض خارجية فقط، ثم أطلق الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون رصاصة الرحمة عندما رفض الوفاء بالتزام الولايات المتحدة بموجب اتفاقية صندوق النقد الدولي ببيع الذهب للبنوك المركزية الأجنبية بسعر 35 دولاراً للأوقية.
ومنذ ذلك الحين، تبنت كل دولة كبرى معياراً ذا صلة بالدولار. لقد كانت حروب الولايات المتحدة منذ دخولها إلى فيتنام، ثم أفغانستان والعراق، بمنزلة الشرارة التي اطلقت العنان لأزمة الدولار، حيث بدأت الولايات المتحدة بطباعة الدولار الورقي ليس وفقا لحجم الاقتصاد، بل وفقا لحجم الدين، وهذا أثر على عملات الدول الأخرى بشكل مهين، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي ظهر اليورو ولكن وفقا للمعيار الدولاري أيضا، فظل ضعيفا أمام تقلبات الدولار وأزمة الدين المتفاقمة، ثم كانت الأزمة المالية العالمية التي أعتقد أنها وضعت العالم والدولار في مأزق لا خروج منه.
فمع ظهور بوادر الأزمة المالية العالمية 2007، صعد سعر أونصة الذهب من 671 دولارا في ذلك العام، إلى 980 دولارا في 2008، واليوم يقف الذهب عند مستويات 2500 دولار، ومع كل ارتفاع في الأسعار كانت احتياطيات الدول من الدولارات تضعف وكانت مدخرات الناس من الأموال التي تطبع وفقا لمعيار الدولار تنهار، والفقر يعود للعالم.
اليوم نقف أمام المشهد نفسه الذي وقف العالم أمامه بعد الحرب الألمانية الفرنسية، تلك الحرب التي قادتها بروسيا وانتهى معها دور الفضة في العالم النقدي، لنجد الحرب الروسية الأوكرانية، وهي تثير أسئلة قديمة لم يتم الإجابة عنها، ومع ضعف الدولار المستمر، ودعوة روسيا والصين لتبني نظام جديد، فإن ظهور معيار نقدي جديد سيكون مرتكزا على الذهب بلاشك، لكن لن يكون الذهب كافيا أبدا وإجبار النظام المالي العالمي على عملة دولة معينة يتطلب قوة اقتصاد وعسكرة كالولايات المتحدة الأمريكية الذي يبدو أنه لم يعد موجودا وغير قادر -لوحده- على حمل ثروات العالم التي تتنامى.
نقلا عن الاقتصادية