منذ قرن مضى والمكاتب المحاسبية والاستشارية الكبرى تستحوذ على أكثر من 95 % من إيرادات السوق في العالم، ولم تتزحزح هذه النسبة طوال القرن، تغيرت الكراسي فقط، فبعد أن كان مكتب أرثراندرسن هو الأول في العالم، توزعت حصته بين الباقين بعد انهياره 2000، ومع انهياره ظهرت حقيقة أن هذه المكاتب ترتكب أخطاء ومخالفات هائلة مهما كان حجمها، وهنا سأقف قليلا بشأن هذه الأخطاء و المخالفات، فلقد بحثت شخصيا، وبحث آلاف من المختصين في العالم أجمع، عن سبب سيطرة هذه المكاتب على الأسواق رغم هذه الأخطاء الخطيرة والمتكررة، فهي تدفع سنويا غرامات تتجاوز مليارات من الدولارات، وبحث بسيط عن هذه الغرامات في منصة جوجل سيفضح حجم المشكلة في العالم أجمع.
لقد أثبتت هذه الغرامات أن السيطرة التي تتمتع بها هذه الشركات ليست بسبب الجودة على كل حال، لكنها أيضا (وفقا لنتائج الأبحاث) ليست بسبب سلوك احتكاري، بل هو طلب فعّال على خدمات هذه الشركات، وأيضا، لإغلاق الأسواق أمام غيرها من قبل الجهات المنظمة على أساس أن هذه الشركات تملك من الخبرات (الكوادر البشرية) ما يجعلها أفضل من غيرها في تقديم الخدمات الاستشارية في الوقت والشكل المطلوب، كما اتضح في الدراسات أن شبكات المكاتب العالمية التي تتمتع بها هذه الشركات تمنح الثقة للعملاء، أضف إلى ذلك قدرتها على إعداد عروض الأسعار في الوقت والشكل المناسب متضمنة حزمة مدهشة من السير الذاتية للخبراء.
في شأن حزم الخبراء الذين تمتلكهم شركات المكاتب المحاسبية الكبرى، فإن القريب من أعمالها يدرك حقيقة مستوى الضغط الذي يقع فيه الموظفون فيها، فهم يعملون لساعات طويلة ومرهقة، وإذا كان نظام العمل قد أقر بعدم تشغيل الموظف أكثر من 8 ساعات يوميا، دون منحه مكافأة عن الساعات الإضافية، فإن هذا المفهوم غير معترف به تقريبا في الشركات الاستشارية، فهي تأخذ ساعات العمل وفقا لمواعيد تسليم المخرجات.
وهذه المخرجات تكون - في أحيان كثيرة - محل مراجعات لا تنتهي من قبل العملاء، بل قد تصل إلى متطلبات شبه مستحيلة في الوقت المتاح للعمل، وأمام هذه الرغبات من العملاء يجب أن يعمل الموظفون ليلا ونهارا من أجل تحقيقها وبدون علاوة خارج الدوام وبلا مراقبة من الجهات المنظمة للمهنة، ما يجعل الموظف عُرضة لاحتراق وظيفي سريع جدا، فمن يرضى بمثل هذه المستويات من العمل المرهق، دون أي عوائد تذكر بخلاف الراتب الشهري الذي قد يتأخر أيضا.
المشكلة الأكثر عمقا، أن هذه الشركات تحاسب الموظفين وفقا لعدد الساعات المقررة في المشروع وعليه أن يقوم بتغطيتها، ثم مهما كان حجم الإيرادات الناتجة عن هذا المشروع فإن قيمة الساعة الواحدة للموظف لا تتغير، والمقصود أنه في مشروع تصل إيراداته إلى ملايين أو في مشروع لا تتعدى إيراداته آلافا فإن العائد على الساعة لا يتغير بين كلا المشروعين بالنسبة إلى الموظف، لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى المراتب العليا من الهيكل الإداري (غالبا أجانب)، ذلك أن من يعمل في هذه الشركات يدرك أن توزيع الساعات وبالتالي الاستحقاقات في نهاية العام في يد المراتب الكبرى، بينما من يخضع لهذا العمل هم من الموظفين في المراتب الدينا من الهيكل.
لهذا يهرب كثير من الموظفين بعد مضي سنتين أو 3 من هذه الشركات للانضمام إلى الجهار الحكومي أو شركات عامة أو خاصة ذات عمل موصوف بشكل دقيق ومحدد الساعات مع بيئة مثالية، إضافة إلى عوائد تقابل الجهد أو تزيد، هذا الاتجاه طبعا يفرغ الشركات الاستشارية من الموظفين بشكل دائم، فمن أين تعوض هذه الشركات موظفيها؟
الإجابة السهلة هي من الخريجين من الشباب في الجامعات، لكن هذا ليس الحال أبدا، فمن يحاول الاقتراب (مجرد الاقتراب) من أبواب هذه الشركات يجد عوائق لا حصر لها، ومتطلبات تعجيزية واختبارات لا يمكن الإجابة عنها بدقة (لأنها من نوع أفضل إجابة، وليس الإجابة الصحيحة)، كل ذلك لصد الجيل الشاب من دخول هذه الشركات، ويبقى السؤال كيف يتم تعويض الفاقد من الموظفين؟ أعتقد أن الإجابة عند هيئة المحاسبين والمراجعين ووزارة الموارد البشرية، وعدد التأشيرات.
نقلا عن الاقتصادية