يُعرف اقتصاد الفضاء الجديد بأنه النمو المتزايد في تجاريّة الأنشطة الفضائية؛ إذ يشارك القطاع الخاص، بما في ذلك الشركات والمستثمرون ورواد الأعمال، بشكل متزايد في استكشاف الفضاء والخدمات المعتمدة على الأقمار الاصطناعية. لم يكن هذا الاقتصاد على هذا النحو قبل عقود من الزمن؛ فقد كانت تهيمن عليه الحكومات وتحركه الدوافع الوطنية أو العسكرية، فكيف تطور اقتصاد الفضاء من شكله التقليدي إلى شكله الجديد والذي جعله متاحاً بهذا الشكل؟
تاريخياً، تطور اقتصاد الفضاء عبر ثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى، التي يُشار إليها غالباً باسم «المرحلة المدفوعة من قبل الحكومات»، وقد مُوّلت هذه المرحلة بشكل أساسي من قبل الحكومات الوطنية، وكانت دوافعها جيوسياسية بحتة؛ إذ استثمرت دول مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بشكل كبير في برامج الفضاء لإظهار قواها الوطنية إبان الحرب الباردة فيما عُرف في تلك الفترة بـ«حرب النجوم»، واستمرت هذه المرحلة من الخمسينات إلى بداية السبعينات الميلادية. المرحلة الثانية، المعروفة باسم «المرحلة المدفوعة من قبل الصناعة»، وابتدأت في السبعينات الميلادية، شهدت هذه المرحلة نشاطاً للكيانات التجارية؛ إذ بدأت الشركات الكبيرة في قطاع الفضاء في استثمار تقنيات الفضاء، خاصة في مجال الاتصالات، مع تحول خدمات الأقمار الاصطناعية إلى الطابع التجاري. المرحلة الثالثة والأحدث، التي غالباً ما يُشار إليها باسم «الفضاء الجديد»، تتميز بتحول نحو المبادرات التي يقودها رواد الأعمال، وابتدأت بشكل تدريجي منذ بداية الألفية، في هذه المرحلة أصبح للشركات الخاصة استقلاليتها في تقنيات الفضاء مع تدخل محدود للحكومات، وأصبح من الدارج أن تُموّل استثمارات الفضاء كغيرها من الاستثمارات سواء من صناديق الاستثمار أو من القطاع الخاص.
ويمثل الانتقال من الفضاء التقليدي إلى الفضاء الجديد تحولاً كبيراً؛ ففي الفضاء التقليدي كانت الحكومات تهيمن على التمويل وتوجه استراتيجيات الفضاء والتنفيذ، وهذا يعني أن الوصول إلى الفضاء كان مقتصراً على عدد قليل من الدول، وكانت المشاريع الفضائية طويلة ومكلفة، وغالباً ما تركز على المهام العسكرية أو العلمية ذات الأولوية العالية. في المقابل، خفض اقتصاد الفضاء الجديد بشكل كبير الحواجز أمام الدخول، كما أسهمت التطورات التقنية مثل الأقمار الاصطناعية الصغيرة والصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام، في تسهيل دخول الشركات لهذا المجال. وعلى سبيل المثال، تقوم الشركات الخاصة الآن بإطلاق العديد من الأقمار الاصطناعية الصغيرة في إطلاق واحد، مما يقلل التكاليف بشكل كبير. هذا التحول يعني أن الفضاء لم يعد فقط ملعباً للمنظمات الحكومية الكبرى مثل «ناسا» أو «روسكوزموس»، ولكنه أصبح مفتوحاً للشركات الخاصة والشركات الناشئة التي يمكنها الآن المشاركة بشكل مربح في أنشطة مثل الاتصالات الفضائية، ورصد الأرض، بل وحتى السياحة الفضائية.
هذه التحولات أكسبت اقتصاد الفضاء الجديد أهمية كبيرة، لا سيما مع مساسه بالعديد من القطاعات الحيوية. وفي عام 2023، بلغت قيمة الاقتصاد الفضائي العالمي نحو 630 مليار دولار، مع توقعات منتدى الاقتصاد العالمي أن تصل قيمة الاقتصاد إلى 1.8 تريليون دولار بحلول عام 2035. هذا النمو مدفوع بصناعات متنوعة تستفيد من التقنيات الفضائية، بدءاً من الاتصالات والملاحة، وصولاً إلى مراقبة المناخ والاستجابة للكوارث، واليوم تعتمد العديد من الصناعات مثل النقل وتجارة التجزئة والزراعة بشكل متزايد على البيانات الفضائية لتتبع وتحسين العمليات اللوجستية. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يحدث النطاق العريض للأقمار الاصطناعية ثورة في الوصول إلى الإنترنت، خاصة في المناطق غير المخدومة، مما يحل مشكلات الاتصال في المناطق النائية، ويوفر المليارات من تكلفة البنى التحتية لإيصال خدمة الإنترنت بشكل تقليدي، وهو ما جعل شركة «سبيس إكس» المملوكة لإيلون ماسك، إحدى أكثر الشركات تأثيراً في العالم. هذا التداخل بين التقنيات الفضائية والقطاعات الأخرى يخلق تأثيراً مضاعفاً كبيراً؛ إذ يعزز الفضاء الكفاءة والإنتاجية والابتكار في العديد من الصناعات غير الفضائية.
إن جميع المؤشرات تشير إلى استمرار التوسع في إمكانات الاقتصاد الفضائي مع استثمار المزيد من البلدان والشركات الخاصة في البنية التحتية والتطبيقات الفضائية؛ وذلك لأسباب منها انخفاض تكاليف الإطلاق، والتحسينات في تقنيات الأقمار الاصطناعية، وتزايد الطلب على الخدمات المستندة إلى الفضاء؛ إذ تعتمد صناعات مثل أبحاث المناخ، واللوجستيات، وحتى الرعاية الصحية، بشكل متزايد على البيانات الفضائية لتحسين العمليات وإنشاء منتجات جديدة. علاوة على ذلك، لم تعد الأنشطة الفضائية مقتصرة على مدار الأرض؛ إذ يجري تصعيد الاستكشافات القمرية وما بعد القمر، فتركز البعثات الخاصة والحكومية على استخراج الموارد المحتملة، والأبحاث العلمية، وإقامة مستعمرات بشرية خارج كوكب الأرض، وهي أمور قد تبدو ضرباً من الخيال العلمي، ولكن الأمر كذلك للعديد من التقنيات التي تستخدم اليوم وأصبحت من البديهيات.
نقلا عن الشرق الأوسط