اللغة والاقتصاد .. هل تؤثر اللغة في القرار؟

22/09/2024 1
د. محمد آل عباس

هل تؤثر اللغة في القرار الاقتصادي؟ هذا سؤال فلسفي كبير، تتجاهله كل الكتب المدرسية في الاقتصاد والمحاسبة، ويتم تجاهله في الاستثمار والتمويل، لكنه يناقش بشكل واسع في فلسفة اللغة، واقتصاداتها، ولكي أوضح أثر اللغة في الاقتصاد، سأعود بالقارئ الكريم إلى ما قبل 2017 عندما بدأ مشروع هيئة المحاسبين المراجعين في التحول إلى المعايير الدولية، وقد كنت أحد فريق التحول لمعايير المراجعة، وشهدت اللحظات الأولى للمشروع ونقاشات العمل الطويلة فيه. لقد كان أمام الهيئة طريق واحد وهو ترجمة المعايير الدولية للمحاسبة والمراجعة من خلال سلسلة من الحلقات، حيث يتم إعداد الترجمة من قبل متخصصين في الترجمة، ثم تعرض على لجنة متخصصة في المهنة، ثم تعرض على متخصصين قانونيين وشرعيين، ثم تناقش في ورش عمل لمدة 3 أيام بواقع 8 ساعات يوميا مع عدد كبير من الخبراء، والأكاديميين والمهنيين، ورغم هذا التحدي الكبير فإن التحول لم يكن سهلا وهو يواجه تحديات لم تتم مناقشتها ودراستها حتى الآن.

فمثلا واجهتنا كلمة (Component)، وهي كلمة منتشرة في المعايير، ولها دلالات مختلفة، لقد قيل إنها تعني العناصر، لكننا نعرف أن كلمة العنصر في المحاسبة تختلف عن استخداماتها في سياقات كلمة Component، وإذا قلنا إنها مكونات، فماذا نعني بهذه المكونات، وهي لا تستخدم بشكل شائع في السياق العربي عند وصف القضايا المحاسبية، قيل إنها تعني الأجزاء، لكن هذا معنى لا يتسق مع سياق الكلمة في النص الإنجليزي، لقد كان نقاشا واسعا حول تطبيقات هذه الكلمة والتأثير القانوني والاقتصادي لكل منها، لقد أدركت يومها أن هناك مشكلة في الفضاء اللغوي في التعليم المحاسبي العربي عموما. كان هناك كلمة لا تقل إشكالية وهي (Judgment) عندما تستخدم في سياق الحكم الشخصي للمراجع (Personal Judgment)، فيما كان هناك من يرى أنها تعني الاجتهاد الشخصي وليس الحكم، ولا شك أن الفرق القانوني بين كلمتي اجتهاد وحكم جلي وواضح، وإذا ذهبنا للمشكلة في أبعاد أوسع فهل المراجعة الداخلية تعني التدقيق الداخلي، وهل كلاهما يحمل ما تحمله كلمة Audit من معان قانونية ومهنية. هنا تبدو اللغة وقضاياها ذات عمق كبير عند تعليم المحاسبة، لكن مع ذلك فإن أي دراسة علمية لتأثير اللغة في القرار الاقتصادي تعد غير قابلة للترقية العلمية كونها خارج الاختصاص للأسف.

سآخذك عزيزي القارئ نحو مسار أكثر عمقا لتأثير اللغة، فمثلا عندما يتحدث محلل باللغة الإنجليزية عن القرار الاستثماري بعد خفض الفائدة، فإنه يستخدم قواعد المستقبل مثل Wil، بينما عندما يتحدث عنها باللغة العربية فإنه يستخدم لغة متعددة القواعد يتنقل دون وعي بين المضارع والماضي، فيقول مثلا تبدأ الأسعار في التراجع، أو تخفيض الفائدة يؤثر في الأسعار، وغيرها من القواعد، ولقد أكدت دراسات عدة أن المستثمرين الذين يستخدمون لغة المستقبل في وصف الأحداث عادة ما تكون لديهم نزعة لتكوين الاحتياطيات والتحوط، بينما الذين يستخدمون لغة المضارع والماضي لديهم نزعة لتقبل مخاطر جسيمة، هذا ينعكس على شكل الأسواق حتما، لكن ما مدى صدق هذه التجارب، وهل عندما يتحدث المحللون في القنوات بلغة ما يؤثرون في شكل الأسواق؟

هذا ما لم نمتلك الشجاعة الكافية للبحث فيه. هذه المناقشة ليست حديثة، ففي 1956 تمت صياغة فرضية سابير- وورف التي تقول إن "مستخدمي القواعد النحوية المختلفة يشيرون من خلال قواعدهم النحوية إلى أنواع مختلفة من الملاحظات والتقييمات المختلفة لأفعال الملاحظة المتشابهة ظاهريًا، وبالتالي ليسوا متكافئين كمراقبين"، فنحن "سجناء لغتنا" أو على الأقل تؤثر في تفكيرنا.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية