في حي العليا يوجد هناك واحد من أهم المراكز التجارية في تاريخ الاقتصاد السعودي، مركز العقارية التجاري، وقد بلغ ذروة نشاطه في ثمانينيات القرن الماضي، لكن أهمية ذلك المركز لم تكن في نشاطه العقاري والتجاري فقط، بل كانت في دوره الكبير والحاسم في تاريخ مهنة المحاسبة في المملكة وتطورها، فلقد عبر عديد من الأساتذة الكبار في المهنة اليوم من خلال الدور الخامس للمبنى الغربي، الذي لم يزل يحتفظ بأناقته حتى اليوم، متجهين نحو مكتب الراشد، محاسبون ومستشارون، ذي المدخل الأنيق من الديكور الخشبي مع بوابة من الزجاج يليها مكتب استقبال صغير، إذا وقفت هناك في أحد الأيام فعليك أن تتصور أساتذة كبارا في المهنة سواء في الثمانينيات أو التسعينيات وبداية القرن الحالي، وهم يقفون أمام ذلك المكتب الصغير عند الاستقبال، قبل أن يأتي إليك شاب في همة واضحة لتخبره بأنك على موعد مع الأستاذ عبدالعزيز الراشد، تدخل لتجد مكاتب صغيرة متراصة معا ومرتبة بشكل أنيق جدا، وتمر عبر ردهة صغيرة لتجد غرفة اجتماعات فيها طاولة دائرية الشكل أمامها أجهزة حاسب آلي محمولة، وعدد من لوحات المفاتيح، وأجهزة أخرى متصلة بشاشة عريضة معلقة على جدار الغرفة، وهناك كثير من أوراق البحث والدراسات تشعرك بمهابة المكان ودقة العمل.
نعم قد جلس على هذه الطاولة أساتذة كبار عملوا معا على تطوير مهنة المحاسبة عندما أسندت وزارة التجارة مشروعها لتطوير مهنة المحاسبة والمراجعة في المملكة في 1400 إلى مكتب عبدالعزيز الراشد، وصدر أول إطار فكري للمحاسبة في البلاد ومجموعة من معايير المراجعة، عرفت بعد ذلك بالكتب الزرقاء، ثم تلا ذلك عدة أعمال انتهت بإنشاء الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين عام 1412، مع منظومة متكاملة للترخيص المهني بدءا بالاختبارات المهنية ذات الصلة، في هذه المرحلة من عمر المهنة كنت لم أزل طالبا في الجامعة، لم أتخرج بعد ولم أكن أتصور أنني سأدخل يوما ذلك المكتب المهيب وأشعر بكل ذلك التاريخ المهني والجهد الضخم، وأن تمر الأيام سريعة جدا، حتى يزلزلني خبر وفاة الأستاذ عبدالعزيز الراشد، رحمه الله، وأن الأب الروحي للمهنة في المملكة قد رحل، يحمل معه تاريخا من المجد والإخلاص والتفاني، والعلم الغزير، لقد رحل أستاذي المهني الأول، وقد لا أبالغ إذا قلت إن نصف علم المحاسبة في السعودية قد مات معه.
لقد هزني خبر وفاته - رحمه الله - جدا، بل للغاية، ذلك أنني ما زلت أظن أنه بقي لديه الكثير مما كان يريد تطويره وإنجازه، وكنت أظن أنه لم تزل لدي فرصة للتعلم منه يوما ما في مؤتمر أو في نقاش، وهو الرجل الذي لا يمكن أن يتراجع عن فكرته ونظريته بسهولة أبدا مهما عملت معه ومهما كانت مكانتك عنده ما لم يكن لديك من استعداد ذهني وغزارة في العلم والثقة بما يكفي لتتفوق بها عليه.
قد تفاجأ عزيزي بأن الأستاذ عبدالعزيز الراشد لم يكن له فضل على مهنة المحاسبة فقط بل على مهن عدة، من أهمها اليوم مهنة المقيمين، فلقد جاءتني دعوة كريمة من مكتبه يوما ما - قبل أن أتعرف عليه شخصيا - للمشاركة في ورشة عمل بشأن تطوير مهنة المقيمين، عندما واجهت المعايير المحاسبية السعودية في بداية القرن الحالي مشكلة تمسكها بالتكلفة التاريخية، رغم التغيرات العلمية العالمية المحيطة، وكان الفقيد الراشد من أشد المتمسكين بها نظرا لأن مهنة التقييم لم تنشأ ولم تنتظم بعد في المملكة، فلو غامرنا حينها بالتحول نحو القيمة العادلة فقد يتم التلاعب بالقوائم في فوضى عارمة، لكنه كعادته لم يكن يقف ضد التغيير بل كان إيجابيا يعمل من أجل الأفضل، فبدأ بمشروع تطوير مهنة التقييم أولا حتى انتهت اليوم في الهيئة السعودية للمقيمين، التي فتحت الباب نحو التحول إلى المعايير الدولية IFRS. لم تكن مآثر الأستاذ الراشد لتقف عند تطوير المهنة في المملكة بل تعدتها نحو دول مجلس التعاون، عندما التقيته وعملت معه لأول مرة ولفترة امتدت لأعوام بعدها.
نقلا عن الاقتصادية