شيئا فشيئا، أصبحت أكثر إيمانا بالحوكمة السائلة، حوكمة تركز على الهدف منها وليس القالب الذي وضعت فيه، حوكمة تتشكل وفقا لما توضع فيه لكنها تؤدي غرضها كاملا، لقد تشكلت الحوكمة في قوالب منذ 1995 مع لجنة كادبوري البريطانية ثم جاء قانون سيبربنس وأكسلي في 2002، لتصبح تلك القواعد أنظمة وتفرض أشكالا وارتباطات هيكلية صارمة، لكن مع ذلك وطوال هذه الأعوام العشرين ونيف، لم تتحسن ممارسات الرقابة كثيرا ولا تغيرت أساليب القرار أبدا، ولا تحسنت أسعار الأسهم والأصول، ولم يهدأ الفساد بل تلبس الحوكمة، كذئب يرعى بين الأغنام، ينتهز فرصة غياب الراعي، الذي يراه ولا يدرك كنه. هكذا أصبح رأيي بعد سنوات من البحث والتقصي والممارسة، بل التحدي، فالحوكمة مهمة لكن ليس بالضرورة أن تأخد شكلا وهيكلا وإطارا محددا، لم يعد لدي شك أن الفساد وتغليب المصلحة الشخصية والتحيز في القرار قد تأقلمت جميعها اليوم مع قواعد وأطر الحوكمة، وأنه لا يمكن تحقيق تقدم ملموس دون استخدم الردع، فإن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن كما قال الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه، ولم يعد عندي شك مثلا أن ربط المراجعة الداخلية بالرئيس التنفيذي أو بلجنة المراجعة سيان، لا فرق بينهما في الأثر، ولهذا فإن الحوكمة السائلة القادرة على ملء الفراغات في الرقابة والتشكل وفقا لثقافة المؤسسات والقيود المفروضة عليها، قد تكون الأقدر على تحقيق أثر ملموس.
الحوكمة السائلة تضع أهداف المنظمة فوق الجميع بل حتى فوق أطرها وقواعدها، فلا تحير لفئة دون أخرى ولا مصالح غير مصالح المنظمة، وهذا ليس على إطلاقه طبعا، ذلك أن مصالح المنظمة يجب أن تكون منضبطة أصلا. لقد كانت تجربة بعض الشركات في السوق المالية السعودية دليلا لا يرقى إليه الشك أن لجان الحوكمة وعلى رأسها لجنة المراجعة قد تتأثر بالمصالح الشخصية، وتتحيز في القرار نحو أهدافها أو قناعاتها ولو كانت تلك القناعات تضر بالشركة وأسهمها، لقد أثبت التجارب أن تصعيد المراجعة الداخلية لم يكن دوما في مصلحة الشركة ولا في مصلحة أهدافها، وكان يمكن معالجة القضايا داخليا، وفي مقام مختلف أثبتت تجربة حوكمة توشيبا أن الحوكمة ككل من بابها حتى محاربها قد تكون مصممة لتحقيق تحيزات إدارية لفئة من المستثمرين دون غيرهم، وليس هناك فرق جوهري فيما لو تم ربط المراجعة الداخلية بالرئيس التنفيذي أو يغيره.
لا أقول إن ربط المراجعة الداخلية بالرئيس التنفيذي هو المعيار، بل إن المعيار هو سيولة الحوكمة وعدم تشكلها في قوالب جاهزة، بل تركتها تتشكل بما يحقق القدرة على ضمان تحقيق مصالح الشركة وقدرة المراجع الداخلي على أن يرفع صوته في أي لحظة مغلبا مصالح المنظمة على أي مصلحة أخرى، لو كان مرتبطا هيكليا بالرئيس التنفيذي، ولو قلنا إن ذلك يهدد استقلاله الظاهري لكنه لن يهدد أخلاقه ولا موضوعيته. وعلي هذا الأساس فإن الثقافة الغالبة في المنظمة هي الفعل والفاعل، وهي المبتدأ وخبره، وليست قواعد الحوكمة ولا أطرها. نعم لا بد من أركان للعمل الإداري المتكامل والحديث ومن ذلك إدارة المخاطر والتغيير والاستراتيجية والتميز المؤسسي، وكل تلك القضايا المهمة، لكن لا تقف كثيرا حول عدد اللجان ولا الأعضاء فيها ولا عدد اجتماعاتهم، فلم تكن كل تلك المظاهر ولا التشكل الكاذب لها -كما يفسره شبنجلر صاحب كتاب انهيار الغرب-، قادرة على الحد من الفساد، بل أصبحت مظهرا من مظاهر التكسب وتعطيل المشاريع والركض خلف سياسات لا تنتهي وخطط لا تبدأ. أطلقوا العنان للحوكمة التي تتغلل في المنظمة في ثقافتها في طريقة عملها وتحفز العمل وتنشطه، دون أن تغير شكل المنظمة بالضرورة ولا أدواتها بل تربط كل ذلك بتحقيق مصلحة المنظمة والقضاء على الفساد والتحيز في القرار.
نقلا عن الاقتصادية