لطالما حلم الإنسان أن يصل مرحلة من الرفاه المعيشي، يؤمّن فيه رزقه دون أن يعمل، هذه الفكرة وردت في أعمال أدبية قديمة، ذكرت أن البشر لن يحتاجوا إلى العمل في المستقبل، وسيكون العمل لمجرد الترفيه، أما الدخل فستؤمنه الحكومات لشعوبها. تبلورت هذه الفكرة، لتصبح إحدى أكثر الأفكار الاقتصادية تقدميّة، وهي الآن تسمى الدخل الأساسي الشامل، وتهدف إلى تأمين دخل ثابت، ودوري، وغير مشروط لجميع المواطنين، بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، بهدف تأمين مستوى معيشي أساسي لكل فرد، وقد طبقتها بالفعل بعض الدول على نطاق محدود، فما الهدف من الدخل الأساسي الشامل؟ وما أبرز التجارب العالمية في هذا الشأن؟ وما الخلافات بين الاقتصاديين بشأنه؟ ولماذا ظهر للنقاش مرة أخرى مع كونه فكرة ليست بالجديدة، يهدف الدخل الأساسي الشامل إلى تحقيق عدد من الأهداف، مثل القضاء على الفقر المدقع بضمان الحد الأدنى من الدخل لكل أفراد المجتمع، وتقليل عدم المساواة بتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتبسيط الرعاية الاجتماعية بإعطاء أفراد المجتمع رعاية عينية بدلاً من الرعاية الاجتماعية التي تعتمد على الشروط والتقييمات، ودعم الحرية الشخصية بمنح الأفراد حرية أكبر في اتخاذ القرارات بشأن الدعم الحكومي سواء كانت تتعلق بالتعليم أو العمل أو حتى الاهتمامات الشخصية.
وقد أجرت العديد من الدول تجارب مختلفة لاختبار فاعلية الدخل الأساسي الشامل، مثل فنلندا التي جربته لمدة عامين من 2017 إلى 2018، حيث تلقت مجموعة من العاطلين عن العمل دفعات شهرية دون أي شروط، وكندا التي جربته لعامين أيضاً بهدف دراسة تأثيره على الصحة والتعليم وسلوك العمل، كما جربته دول أخرى مثل هولندا، والهند، والبرازيل، وأستراليا. ويجمع بين هذه التجارب أنها أجريت لفترات قصيرة، وفي مناطق محدودة لهدف دراسة التأثير، كما تشابهت نتائج العديد منها، بأن تحسنت الصحة النفسية وجودة الحياة لمتلقي الدخل، دون وجود أي نتائج اقتصادية مثبتة، وتُدعم فكرة الدخل الأساسي الشامل من الناشطين الاجتماعيين الذين يرون فيه حلاً فعالاً للقضاء على الفقر، وتعزيز المساواة، ومن الاقتصاديين التقدميين الذين يعتقدون أنه محفّز للابتكار والنمو الاقتصادي، ومن بعض السياسيين الذين يدعمون الفكرة كجزء من برامجهم السياسية لتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وترى هذه المجموعات أن الفكرة يمكن لها أن تزيد القدرة الشرائية للأفراد، وبالتالي زيادة الاستهلاك، وتعزيز النمو الاقتصادي، وتحفيز الشركات الصغيرة والمتوسطة وذلك بتوفير دخل ثابت للأفراد؛ مما يمكنهم من تأسيس شركاتهم الخاصة وخلق فرص عمل جديدة، كما تعطي هذه الفكرة حرية أكبر للموظفين بترك وظائفهم غير المرغوبة والسعي وراء الفرص التي تلائم شغفهم ومهاراتهم.
في المقابل، فإن الدخل الأساسي الشامل يُعارض بسبب تكاليفه المالية العالية، فالمطالبون به في الولايات المتحدة قدّروا أن يكون الدخل نحو 1000 دولار شهرياً، وهو ما يعني أن تكلفة هذا البرنامج ستزيد على 4 تريليونات دولار سنوياً، وهو ما يقترب من الميزانية الفيدرالية بأكملها عام 2018، كما أن بعض الاقتصاديين يرى أن هذا الدخل قد يشجع على الكسل، ويقلل الحافز للعمل. أما المعارضة الجوهرية، فهي أن الدخل الأساسي الشامل، وبحسب اسمه، لجميع أفراد المجتمع، غنيّهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، الموظف منهم والعاطل، بينما تُخصص البرامج الحكومية الحالية – وهي محدودة بميزانيات وقدرات الحكومات - للإعانات الاجتماعية بحسب حالة الفرد، فهناك برامج اجتماعية لإعانة العاطلين والباحثين عن العمل، وهناك أخرى للأرامل والأيتام، وكبار السن، وأصحاب الإعاقات الجسدية والعقلية؛ أي أن الإعانات تصرف بحسب الاحتياج والاستحقاق، لا بالمطلق ودون قيود.
وقد عادت فكرة الدخل الأساسي الشامل للظهور مرة أخرى لأسباب عديدة، منها استغلال السياسيين لهذه الفكرة بشرح أن الثروات تتركز لدى الأثرياء الذين تتضخم ثروتهم، بينما لا يحصل الفقراء ومتوسطو الدخل على حصتهم «العادلة» من الدخل. ومنها كذلك فكرة أن الذكاء الاصطناعي والأتمتة ستسيطر على وظائف المستقبل التي قد تصل إلى حد التطرف، حيث يرى البعض أن الحكومات يجب أن تبحث عن مصادر دخل للمواطنين الذين لن يجدوا وظائف بسبب الذكاء الاصطناعي, ولا يعدو الدخل الأساسي الشامل كونه فكرة لم تُجرب بالنحو الكافي، ولم يتضح أثرها الاقتصادي بشكل كامل، والتجارب ذات النطاق الواسع لم تكن مشجعة حين صرفت الحكومة الأميركية إعانات لشعبها إبان الجائحة، كانت أحد أسباب التضخم. ويرى بعض الاقتصاديين أن من الأَوْلى أن توجّه الأموال الحكومية إلى الأنشطة الاقتصادية التي تخلق وظائف، وأن من يفقد وظيفته يرغب بالحصول على وظيفة جديدة، وإلى تأهيل لتتناسب مهاراته مع سوق العمل، لا إلى إعانات حكومية نقدية. ولا ينفي ذلك كله أن فكرة الدخل الأساسي الشامل فكرة جديرة بالدراسة، لا سيما أنها فكرة برّاقة، إلا أن آلية تطبيقها على أرض الواقع ليست كذلك البتة.
نقلا عن الشرق الأوسط